عرض المادة
الخوارج و الوجه الآخر
الخوارج.. الوجه الآخر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد..
فإن الأمة لما خالفت سبيل نبيها محمد صلى الله عليه وسلم تمزقت أشلاءً، وتفرقت أحزابا، وفرقا وطوائف متعددة، كل حزب بما لديهم فرحون.
وعلى افتراق الطوائف التي خرجت في هذه الأمة، وخالفت السبيل القويم، فإن الأمة الإسلامية لم تُبتل بطائفة كما ابتليت بطائفة الخوارج.
تلك الطائفة التي خرجت على جماعة المسلمين وإمامهم، وكان انتشارها وقوتها في زمن علي رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان أصل خروجها ونشأتها قد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
فما ابتليت أمة الإسلام بطائفة وفتنة كما ابتليت بهذه الطائفة التي ابتعدت عن العلم، وتاهت في ظلمات الجهل، وتركت سبيل السنة وطريقة العلماء الربانيين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ تعليقا على قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه".
ـيقول: "أي إنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك ـ أي يرون ذلك دينا ـ لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة".
هذا حال الخوارج الذين خرجوا على جماعة المسلمين وهذا شيء من أوصافهم العديدة المتعددة، وأصل هؤلاء الخوارج كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنه قد جاءته الغنائم في غزوة حنين فقسمها صلى الله عليه وسلم وقد فضل أناسا من أمراء القبائل في الأعطيات من أجل مصلحة عظيمة رآها صلى الله عليه وسلم وهي تأليفهم على الإسلام، فجاءه رجل ناتئ الجبهة عريض الوجنتين فقال له: "اعدل يا محمد فإنك لم تعدل"، [يقول: اعدل ويقول: يا محمد]، لأنه رأى في نفسه أنه بلغ في العلم والتقى مبلغها حتى قال: اعدل يا محمد، وفي لفظ قال: "إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله" كبر وتعالم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء..؟!"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فمن يعدل إن لم أعدل؟، خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل"، فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "دعه"، فلما ولى مدبرا قال صلى الله عليه وسلم: "إن من ضئضئ هذا [يعني أصله، هذا الأصل وسيأتي له فروع] إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم [أي: يقرؤونه من غير فقه يصل إلى ها هنا ويقف، وقيل معناه لا ترتفع أجورُهم إلى السماء]، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، [كما يأتي السهم فيضرب الطائر من مكان فيخرج من مكان آخر لا يأخذ من دمه ولا من ريشه شيئا، وهذا دليل على قلة نصيبهم من الإسلام]، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" [أي: قتلا مستأصلا كما قال الله سبحانه وتعالى: {فهل ترى لهم من باقية}].
وفي زمن عثمان رضي الله عنه وأرضاه اجتمعوا من بلاد عديدة وجاءوا قافلين حتى بلغوا المدينة، وخرجوا عليه رضي الله عنه وقتلوه رضي الله عنه والمصحف في يده، وركب خارجي على صدره [حتى تروا أنهم يريدون الدنيا] ركب هذا الخارجي على صدره وطعنه بتسع طعنات، ثم قال: أما ثلاث فلله، وأما ستٌّ فلشيءٍ في نفسي عليه.
ثم خرجوا في وقت علي رضي الله عنه وأرضاه، وكان خروج قادتهم للدنيا، وذلك أن الأشتر ـ وهو من الخوارج ـ كان يطمع أن يجعله عليٌّ أميرا على البصرة فجعل عليها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعند ذلك خرجوا عن طاعته وذهبوا إلى منطقة يقال لها حروراء وهي بجانب الكوفة واعتزلوا الناس وبدأوا بالكلام وإثارة الناس على عليٍّ رضي الله عنه، باسم الدين ورفعِ شعار الورع والتنسك فقال لهم عليٌّ رضي الله عنه: "لا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم الفيء ولا نبدؤكم بقتال حتى تبدؤوه"، ثم مالوا إلى عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه [حتى تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى حيث قال فيهم: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"] مالوا إلى عبد الله بن خباب بن الأرت ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أميراً لعلي رضي الله عنه فجاءوا إليه وقتلوه وشقوا بطنَ أمِّ ولده، عنفا وقسوة في القتل، يقتلون مسلما موحدا لأنه لم يكن سائرا على طريقتهم.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على قتال الخوارج فقال: "سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان"، [أي: أنهم شباب صغار يتحمسون في مجلس ويملؤهم رجل في شريط تهييجي ثم يدفعهم لأعمال التخريب].
"سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام"، [أي: أن عقولهم صغيرة]، "يقولون من خير قول البرية"، [أي أنهم إذا تكلموا في القنوات قلت: ليس هناك أبلغ من فلان فإنهم أوتوا جدلا ولحنا، {ولتعرفنهم في لحن القول}]، "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" [أي: يقرؤونه من غير فقه ولا إدراك]، "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة".
كما أنه قد وصفهم صلى الله عليه وسلم بوصف شديد، وسماهم شرَّ الخلق والخليقة، فقال: "إن بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة".
وخرجت خارجة من هؤلاء في الشام فقُتلوا وأُلقوا في بئر، فجاء أبو أمامة صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم، ثم بكى وقال: سبحان الله ما فعل الشيطان بهذه الأمة كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء خير قتلى تحت ظل السماء من قتلوه. قيل: يا أبا أمامة أشيءٌ تقوله برأيك أم شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني إذاً لجرىء، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا حتى عد عشرا.
فوصفهم النبي صلى الله عله وسلم بأنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وسماهم كلابَ النار، ووصْفِهم بالكلاب؛ لأن الكلب لا يزال ينبح ويستهيج الناس حتى يدلَ العدوَّ على قومه، أو لأنهم لا يزالون تقتيلا في المسلمين وتكفيرا كمثل الكلب إذا جاع فإنه يرجع إلى ذنبه فيأكلَه.
وقد أكرم الله سبحانه وتعالى علياً رضي الله عنه وأرضاه بقتالهم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقاتلهم وأن آية ذلك أن فيهم رجلا يده مقطوعة وأن يده في مؤخرتها قطعةُ لحمٍ كحلمة الثدي، فقاتل علي رضي الله عنه هؤلاء الخوارجٍ، ثم بعد أن انتهى من قتالهم بعث من يبحث له عن هذه الصفة، فبحثوا فلم يجدوا شيئا، فرجعوا إلى علي وأخبروه فقال: "ارجعوا فوالله ما كذبْتُ وما كُذّبت"ـ مرتين أو ثلاثا ـ فبحثوا حتى وجدوا ذلك الرجل على الصفة التي ذكرها له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وعند ذلك سُرّ أصحابه لِما رأوا من تصديق الخبر، وذلك أن بعضهم لما رأى اجتهادَ الخوارجِ في العبادة والصلاة وطول القيام أخذته ريبة من أمرهم، كما حدث ذلك مع جندب ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ وقد كان مع جيش علي ـ رضي الله عنه ـ، يقول جندب ـ رضي الله عنه ـ لما كان يومُ قاتل عليٌّ رضي الله عنه الخوارج:
"نظرتُ إلى وجوههم والى شمائلهم فشككت في قتالهم"، أي أنه لما رأى الناس يصلون ويبيتون قائمين يطيلون القيام استراب في أمرهم، يقول رضي الله عنه: "فشككت في قتالهم فتنحيت عن العسكر، [يعني أخذت لي جانبا غير بعيد] فنزلت عن دابتي وركزت درعي تحتي وعلقت ترسي سترا من الشمس، وأنا معتزل العسكر ناحية، إذ طلع أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب، على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت في نفسي: مالي وماله أنا أفر منه وهو يجيء إليّ، [يعني: أنه يودّ اعتزالَ هذا القتال]، فقال لي: يا جندب مالك في هذا المكان تنحيت عن العسكر؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أصابني وعك فشق عليَّ الغبار فلم أستطع الوقوف، فقال: أما بلغك ما للعبد في غبار العسكر من الأجر؟ [وذلك يقينا بما عند الله وبما أخبره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم]، ثم ثني رجله فنزل فأخذت برأس دابته، وقعد فقعدت، فأخذت الترس بيدي فسترته من الشمس، فوالله إني لقاعد إذ جاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين: إن القوم قد قطعوا الجسر ذاهبين فالتفت إليّ وقال: إن مصارعهم دون النهر، [لأن الذي أخبره بذلك الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم]، وإن الذي أجده عنده واقف [يعني لا زال الرجل واقفا عنده]، إذ جاءه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين والله قد ابتعدوا فما بقي منهم أحد قال: ويحك إن مصارعهم دون النهر، فجاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين: والذي بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لقد رجعوا، ثم جاء الناس فقالوا: قد رجعوا حتى إنهم ليتساقطون في الماء [انظروا إلى حماسهم إلى قتل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنهم ليتساقطون في الماء زحاما على العبور لأن الجسر كان فوق النهر]، ثم إن رجلاً جاء، فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم قد صفوا الصفوف ورموا فينا وقد جرحوا فلانا فقال علي رضي الله عنه: هذا حين طاب القتال، فوثب فقعد على بغلته، وقمت إلى سلاحي فلبسته ثم شددته عليّ، ثم قعدت على فرسي وأخذت رمحي ثم خرجت، فوالله ما صليت الظهر أو قال العصر حتى قتلت بيدي سبعين".
فهاهو قد استراب في أمرهم لما رأى عبادتهم رضي الله عنه، لكن لما رأى حماسهم لقتل المسلمين، بل أخيارِ الناس بعد الأنبياء أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم تيقن الخبر، لاسيما وقد سمع من علي رضي الله عنه أنه يحدد مصارعهم. وقد هزمهم الله جل وعلا شر هزيمة على يد علي رضي الله عنه، ولذلك قال الآجرّي رحمه الله: "فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان أو جائراً، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن ولا بطول قيامه في الصلاة ولا بمداومة الصيام ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبُه مذهبَ الخوارج".
ولا يظن مسلم أن بدعة الخوارج قد انتهت بل إن بدعتهم باقيةٌ إلى أن يخرج قوم منهم في الدجال كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي حصل أن الأزياء تغيرت، والألسن تبدلت، ولذلك التبس أمرهم على كثير من المسلمين، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينشأ نشىءٌ [يعني جماعة أحداث صغار السن] يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج قرن قطع".
انظروا إلى هذا القول: "كلما خرج قرن قطع" أي: أن الخوارج لن تقوم لهم قائمة أبداً.
قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع، أكثر من عشرين مرة، حتى يخرج في عراضهم الدجال"، [يعني حتى يخرج في خداعهم الدجال].
فبدعة الخوارج باقية ولا زالت تعيش بين صفوفنا، ولكن أُلبست على كثير من الناس، لأن أصحابها في هذا الزمن تغيرت أزياءهم، وتبدلت ملابسهم، وتلونت وجوههم، فباتوا يظهرون في كل وجه، ومن تأمل السنة وخبر أعمالهم مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علم أوصافهم فحذرهم، وإنْ رأى منهم عبادة، لأن عبادتهم لأنفسهم ولكن ضررَهم يعود على المسلمين جميعاً.
فهم يخرجون على أئمة المسلمين بالطعن والثلب، وإحداث القلاقل والفتن كما خرجوا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج أصلهم الفاسد، ونبتتهم الأولى فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، وكما خرجوا على عثمان، وعلي رضي الله عنهما.
وتنبهوا أيها المسلمون إلى أن الخوارج طبقات ودرجات، ومن هؤلاء الخوارج طبقة تسمى القعدية، وهم الذين يهيجون الناس على الخروج على الحاكم ويحسنونه لهم ولا يخرجون، وهذه الطائفة من طوائف الخوارج قد انتشرت أشرطتهم بين صفوف المسلمين، ولا يزالون يهيجون الناس على الحكام ويدفعون بالناس إلى الفتن، ثم بعد ذلك ينسلون في بيوتهم، بل ويفعلون ما هو أشد من ذلك من إعلان البراءة من فعل هؤلاء المغرورين، وهذه طامة عظمى يراها كل مبصر ويعيها كلُّ عاقل.
وتجد أن هؤلاء إذا مُنعوا من الدنيا هاجوا وماجوا وإن أُعطوا منها تحول حالهم إلى ما هو أحسن، فإذا بهم يكيلون للولاة والحكام من عبارات المدح والثناء، ما لو قاله صاحب سنة لوسموه بالنفاق والعمالة.
فانظروا وتأملوا في هذا الواقع الذي يشيب الولدان، فتجد رجلا يهيج الناس ويحرضهم، فإذا أعطي من الدنيا فإذا بلسانه يتغير، وإذا بمدحه يزداد، وإذا بالذم يعود مدحاً للحكام والولاة.
أين الطاعة في المعروف؟ هو مأمور بالطاعة إن مُنع أو أُعطي، فلماذا يعلِّق هذا الأمر الشرعي بالدنيا فإن أعطي منها مدح وإذا منع منها قدح.
والطاعة ملازمة له على كل حال للحاكم المسلم في بلاد المسلمين فلا تعلَّق بالدنيا.
ومن صفات هؤلاء الخوارج الجهل، كما وصفهم بذلك أصدق الخلق، وأنصح الخلق للخلق محمد صلى الله عليه وسلم حيث أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فتجدهم يحملون الآيات الواردةَ في الكفار والمنافقين ويضعونها على المسلمين، وإذا بهم يضعون النصوص في غير محلها الصحيح.
ومن عاداتهم الخروج على العلماء والطعن فيهم وتنفير الناس منهم للانفراد بتوجيه الشباب فإذا رأوا عالما سنيا مقتفيا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا منه توجيها وتسديدا ونصحا للمسلمين فإذا بهم يعودون عليه بالقدح والسب والطعن لتنفير الناس منه.
ومع الأسف الشديد أن هذا قد درج عليه بعض الناس بسبب ما يسمعونه من هؤلاء، فتجد بعض العامة مع أن فطرتهم سليمة، (أسلم من فطرة هؤلاء المنحرفين)، تجده يتكلم في عالم كبير جليل ويطعنه بأنه عميل وأنه لا ينكر على الحكام وأنه وأنه وأنه، وقد قال بعض السلف: "لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة"، بل ولعله يأتي إلى أمور لا يعلمها إلا الله فيتهمه بأنه حصل على الأموال وحصل على المبالغ الكبيرة للتحدث في هذا الحديث أو ذاك ... فأين العقول؟ وأين البصائر..؟
ولكن لا غرابة فقد أوذي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصبر، ومن كان على طريقته صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يناله نصيب من كلام هؤلاء الخوارج.
ومن صفاتهم ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، من قتالهم أهل الإسلام، ومسالمة أهل الأوثان، فقال: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"، فتجد رجلا منهم يعيش في ديار الكفر ويمدحها، لأجل ما يحصل عليه من معايش الدنيا وهو قد سُلب دينه.
فإذا به إذا ذكرت أمم الكفر مجّد ومدح وأثنى وإذا ذكرت بلاد الخير من بلاد التوحيد أو البلاد التي تظهر فيها شعائر الإسلام، فإذا به يظهر كل نقيصة حتى إنه ليكذب ويزور الحقائق.
ومن أعمالهم التي أدى إليها هذا الفكر المتشدد تلك التفجيرات التي تحصل في بلاد المسلمين فيقوم بها أولئك النشىء الجاهل، الذين مازالوا يملأ عقولهم أولئك المهيجون، الذين إذا حدثت طامة، قالوا: لسنا منهم في شيء (وهذا عمل ندينه)! وماذا عن الأشرطة التي لا زالت تغذي الناس سنين عديدة بهذا الفكر المتشدد؟!، فإذا فعلوا هذا الفعل قلت: {قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا}؟!
هذه الأفكار إنما كانت من أفكار أولئك الخوارج الذين لا زالوا يبثونها في الشباب حتى حدثت عندنا تلك الطوام العظيمة، فيأتون إلى بلاد المسلمين فيفجرون فيها.
وأين أنت من ذلك الرجل الموحد الذي قتل في هذا الانفجار، {بأي ذنب قتلت} وكيف ستحاج بين يدي الله وأنت قتلته من غير ذنب؟ وماذا تقول، وبماذا تدفع؟!
انظروا الى الجهلة ماذا يتأولون يقولون إن حدث هذا الانفجار وقُتل فيه بعض المسلمين يبعثون على نياتهم.. الله أكبر.. كيف يبعثون على نياتهم؟؟؟!!!
التفجير في بلاد المسلمين لا يجوز بأي حال من الأحوال ولو كان المتفجَّر فيه كافراً قد جاء بعهد وأمان من حاكم المسلمين.
وكيف يحاج ذلك المغرور وقد نشر الرعب والخوف بين صفوف المسلمين، يقتل ويفجر.. أليس ذلك نوعا من الخيانة، واستجلابا لدعاء المسلمين عليه؟..
يُؤتى إلى بلد من بلاد الإسلام تُقام فيه الصلاة والشعائر الإسلامية فيُفَجَّر فيها، لا شك أن هذا من فعل الخوارج..
وفي الجانب الآخر إذا تكلم بعضهم يتكلم وكأنه إمام المسلمين سنفعل ونفعل ونفجر في المكان الفلاني، ومن أنت؟؟!!، والمصيبة أنه لا يذكر بالتفجير إلا بلاد المسلمين.
ولعلها ستظهر الأيام أن بعض هؤلاء، ماكان إلا آلة في أيدي الأعداء إن لم يكن قد ظهر حاله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل بكشف سرهم وفضحهم.
ومن صفات هؤلاء التي فارقوا فيها أصحابهم الماضين، أن الخوارج في السابق وإن كانوا أصحاب باطل إلا أنهم كانوا أصحاب شجاعة ولا يكذبون..
فلما وقف الخارجي بين يدي الحجاج وهو صاحب باطل، سبه في وجهه، ولكن انظروا إلى خوارج هذا الزمان..
مئاتُ الأشرطة تنضح في الفكر الخارجي وتحريض الناس على التخريب، فإذا حدثت الفتنة خرج في القنوات الفضائية ليندد بهذه الأفعال على استحياء.
فمن الذي أوصلهم إلى هذا؟..
ولماذا لما أعطيت من الدنيا فإذا بك تتنازل عما تراه دينا؟!.
ولماذا بدأ بعض هؤلاء يستعملون التقية، فإذا به يظهر لأصحابه بوجه، وإذا خرج إلى الناس ـ وقد أعطي شيئا من الدنيا ـ فإذا به يتنازل عن مبادئه، ويلبس وجها آخر.
إن المصيبةَ العظمى والطامةَ الكبرى، أنْ قُدِّم أمثالُ هؤلاء لإفتاء الناس ولا يملكون علماً، ولا زالوا صغار السن والعلم، وقد فتنتتهم القنوات الفضائية بتسميتهم علماء، فإذا بهم لما رَقَوا جبلا صعباً، شق عليهم نزوله، فراحوا يتخبطون فجاءوا بالعجائب.
ذكر اللالكائي في كتابه السنة، قال: طاف خارجيان بالبيت، فقال أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الخلق لن يدخل منهم الجنة إلا أنا وأنت، فقال له صاحبه: جنة عرضها كعرض السماء والأرض بنيت لي ولك؟
قال: أجل، قال: هي لك، وترك مذهبه.
إن هذه النظرة القاتمة لدى هذا الرجل هي عينها التي ورثها أصحابُه في زمننا هذا، فبدؤوا ينظرون إلى المجتمع المسلم نظرة سوداء قاتمة، فمن كان معهم فهو على الخير والهدى، ومن خالف مذهبهم فقد ضل سواء السبيل.
وإن هذا الفكر المتشدد قد جلب لهم الوسواس، وسوء الظن بالمسلمين واحتقارهم، ومعاملتهم بوحشية، وكل هذا بسبب ما يرونه من اعتقاد تكفير من لم يكن على طريقتهم.
وما تلك الأعمال التخريبية التي تحصل في بلاد المسلمين إلا بسبب هذا المنطلق السيئ.
وإن مما يحزن كلَّ مسلم صادق، وتستنكره الفطر السليمة، ما أحدثه أولئك المغرورون من التخريب في بلاد الحرمين، فقتلوا الأبرياء، وشوهوا صورة الاسلام البيضاء الناصعة.
فما ذنب طفل يقتل بلا سبب ولا جريمة؟!..
وما ذنب شعب يروع بلا جناية؟!..
وما هي النتيجة المرجوة من وراء هذا الفعل الدموي؟؟!
والأدهى من ذلك، ما عزم عليه أهل الشر من التفجير في مكة المكرمة، قبلة المسلمين التي حرمها الله سبحانه، وأوجب تأمين من دخلها، كما قال تعالى: {ومن دخله كان آمنا}، وكانت الجاهلية تعرف ذلك، فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه، فلا يؤذيه بشيء تعظيما لهذه البقعة المباركة الطاهرة.
وقد توعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ من همّ فيه بالإلحاد والظلم أو أراده بالعذاب الأليم، كما قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}..
فكيف بمن فعله..؟؟!
ولما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، خطب الناس وقال: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات الأرض، وإن الله جل وعلا لم يحله لي إلا ساعة من نهار، وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب"، وقال: "إنه لا يحل لأحد أن يسفك فيه دما، أو يعضد شجره، ولا ينفر صيدُه، ولا يُختلى خلاه".
فإذا كان الصيد والشجر محترمين في هذا البلد الحرام، فكيف بحال المسلم الذي هو أشد حرمة عند الله سبحانه من بيته الحرام..؟!
إن هذه الفتن لَما تحير العقول والأفهام!
يعمد رجلٌ يدّعي الإسلام إلى المسلمين الآمنين الذين جاءوا يطلبون رحمة الله ورضوانه، فيَهمَّ بالمكر بهم وتقتيلهم وترويعهم.
هل هذا هو الجهاد الذي يزعمون؟؟!
تُقتَّل النفوس المحرمة في بلد حرام!! نعوذ بالله من غياب البصيرة.
إنَّ مَن لم يدرك فكر هؤلاء وأبعاده، يظن أن في الأمر مبالغة، ولكن من عرف نظرتهم للمسلمين، وحقدهم الدفين، علم أن هذا مما يمليه عليهم دينهم الذي تدينوا به، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان".
والعجب ممن إذا سئل عنهم في القنوات الفضائية ووسائل الإعلام أخذ يبرر لهم ويشرح طريقة علاجهم، وكأنه يبرر فعلهم لكن على خجل ووجل.
إن منتهى الحسرة والغبن أن ترى شبابا كانت تعدهم أمتهم المسلمة، ليكونوا لها حصنا وستراً، فإذا بهم يتحولون إلى خونة، يكشفون عورتها، ويفضحون أسرارها، مثلهم في ذك مثل الابن العاق الذي ما زالت أمه تغذوه وترعاه، فلما قوي عوده، فإذا به يتهمها بكل ريبة، ويصفها بكل لقب دنيء.
ماذا يريد هؤلاء.. هل يريدون الجهاد؟؟!!
وهل الجهاد في تقتيل الأطفال والنساء والمسلمين، في بلد هو أكثر البلدان أمنا واستقرارا.
متى يعرف أولئك أنهم مغرورون..؟!!
ألا يرون أن بعض هؤلاء الذين يدفعونهم لبث الرعب في بلادهم وأمتهم، قد عاش في بلاد الكفرة ودُعِم بقناة فضائية، ينشر بها فكره، ويطعن فيها بدينه، وإذا تكلم فإذا به يطالب بإعطاء الحريات التي تناقض الإسلام، من حرية الاعتقاد، وسفور المرأة واختلاطها السافر مع الرجال، وإذا به ينتقد الحكام لدنيا وهو يلبس لباس الدين زورا وبهتاناً، ولو تمكن لعلمنا علم اليقين أن الحكام أشرف منه وأطهر.
وهذا ليس تخمينا..
فمطالبه وهو لا يملك شيئا حوت الفجور كلَّه … فكيف إذا تمكن؟!
أرى بين الرماد وميــض نار فيــوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعوديـــن تُذكى وإن الحرب أولها الكـــلام
لئن لم يطفـــها عقلاء قوم يكــون وقودَها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري أأيقــاظ أميـة أم نيــام؟!
فإن كانوا لحينهمـــوا نياما فقل قومــوا فقد حان القيام
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ونعوذ بك من الشقاق والنفاق وسيء الأخلاق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
19 رمضان 1424 هـ الموافق 14/11/2003م
-
الجمعة AM 12:06
2009-09-11 - 3480