عرض المادة

الخوف من الله

23531 | الجمعة PM 04:45
2015-05-15

الخوف من الله

الحمد لله الذي أوجد الكون من عدمٍ ودبَّره، وخلق الإنسان من نطفةٍ فقدره، ثم السبيل يسَّره، ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء أنشره، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره.

وبعد، أيها المسلمون:

فاعلموا أنَّ هذه الدنيا دارُ انصرامٍ لا دار دوام، ودارُ عُبور لا دار حُبور، و دارُ نَفادٍ لا دار إخلاد.

دار أهلها يتحولون، وسكانُها يرتحلون، ثمَّ إنهم يوم القيامة عند ربهم يختصمون، ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

ولذا كان الواجب على المسلم أن يكون مخبتًا لربِّه منيبًا إليه، مطيعًا لأوامره مجتنبًا لنواهيه، يتقرب إليه بفعلِ الطاعات، واجتنابِ المعاصي والمنكرات، كما يجب عليه أن يكون لله خائفًا وجِلًا، فإنَّ ذلك حريٌّ به أن يسلك به سُبل النجاةِ وطرقِ السلامة، قال الله عز وجل: "وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنْته يوم القيامة".

فإذا كان المسلمُ في هذه الدنيا خائفًا من الله -جل وعلا-، مراقبًا له سبحانه في جميع أعماله، يتقربُ إليه بفعل الطاعاتِ ويبتعدُ عما يبغضه، فإنَّ له الأمنَ التامَّ يوم القيامة.

وإن كان ممن اقترف المعاصي والآثام، ولم يراقبِ اللهَ عز وجل في سرِّه وجهره، فإنَّه قد تُوعِّد بالخوف يوم القيامة.

ألم يتفكر الإنسان في حقيقته ومنتهاه؟!

لابدَّ له من يومٍ سيرحل فيه عن هذه الدنيا، فهل تفكَّر فيما سينتهي إليه أمرُه وعلى ماذا سيقدم؟

قال صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: يا محمد، عِش ما شئت فإنك ميِّت، وأحبب من شئت فإنك مفارقُه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به".

فربما يعيش المرء في هذه الدنيا طويلًا، ويتمتع في ملذاتها، والنهاية هي الموت، ومهما عمَّر في هذه الدنيا فسيرحل عنها ويترك الأموال والأولاد والزوجات، ولن يذهب معه إلا العمل، فإن كان عمل خيرٍ وجد ما يسرُّه، وإن كان عملَ سوءٍ وجد ما يسوؤه، فإلى متى تستمر غفلةُ الإنسان وبعدُه عن اكتساب الأعمال الصالحة؟

إنَّ خوف الله -جل وعلا- دليلُ الإيمان والتقوى، ومبشِّرٌ بنجاةِ العبد وسلامتِه من الآفات والبلوى، ويقرِّب العبد إلى ربه، وكلما كان العبد لله أخوف كان لله أقرب.

وحَريٌّ بالمسلم أن يتعلم الخشية لخالقه، وأن يعاشرَ مَن هذا وصفه، فإنَّ في قربه غنيمة، قيل للحسن البصري -رحمه الله تعالى-: يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوام يحدثوننا عن الآخرة حتى تكاد قلوبُنا تطير؟ قال: "إنك والله إن تصحب قومًا يخوِّفونك حتى تدرك أمنًا، خير لك من أن تصحب أقوامًا يؤمِّنونك حتى تلحقك المخاوف".

وقد حرَّك خوفُ الله تعالى قلوبَ السلف نحو لذة المناجاة، وانكسارِ القلوب، وإخلاصِ القصد والنيَّة، وصدقِ اللجوء إلى الله، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾، فقلت: يا رسول الله، أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يُقبَل منهم".

لله درُّهم، ما أعظمَ علمهم وأخلص قلوبهم، فهم يعملون أعمالًا صالحة كالجبال، وفي قلوبهم من الخوف والورع والإنابة ما يتوقعون معه أنه قد لا تُقبَل منهم أعمالهم، فكيف بالذي يقيم على الذنوب وهو يرجو أن يأمن يوم القيامة، والذي يعمل العمل الصغير ويمتنُّ به، وكأنه قد أخذ عهدًا على الله أن يُدخلَه الجنة، يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "واللهِ لقد مضى بين أيديكم أقوامٌ لو أنفق أحدُهم عددَ الحصى ذهبًا لظنَّ ألا ينجوَ لِعِظَم الذنب في نفسه".

وقد جاءت سِيَر السلف وأقوالُهم الصادقة شاهدةً بنقاء قلوبهم، ورقَّة أفئدتهم، وعظيم صلتهم بخالقهم، فلم تغرهم الدنيا، ولم يفتتنوا ببهجتها، وكانوا أشدَّ ما يكونون منها هربًا أشدَّ ما تكون لهم طلبًا.

قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لرجلٍ: صف لي عليًّا، فقال: "كان والله بعيدَ المدى، شديدَ القوى في ذات الله، يقول فصلًا ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وكان واللهِ غزير الدمعة، طويلَ الفكرة، يُقلِّب كفيه تأسفًا وحزنًا، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما حضر، وكان واللهِ كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللهِ مع تقريبه لنا وقربه منَّا لا نكلِّمه هيبةً له، يُعظِّم أهل الدِّين، ويحبُّ المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد بالله لرأيتُه في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل ستورَه، وغارت نجومُه، وقد تمثَّل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ اللَّديغ، ويبكي بكاء الحزين، وكأني أسمعه يقول: يا ربَّنا يا ربَّنا، يتضرع إليه، ثم يقول: يا دنيا، ألي تعرضْتِ أم لي تشوفْتِ؟ هيهاتَ هيهاتَ، غُرِّي غيري، غُرِّي غيري، طلقتك ثلاثًا لا رجعةَ فيها، فعمرُك قصير، وعيشُك حقير، وخطرُك كبير، آهٍ من قلةِ الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فبكى معاوية س حتى سالت دموعه على لحيته، وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال: رحم اللهُ أبا الحسن، كان واللهِ كذلك".

انظر إلى ورعه، وتواضعِه لربِّه وإخباتِه وإنابته، وهو من المبشرين بالجنة، ومع ذلك يقول: آهٍ من طولِ السفر وقلةِ الزاد وبُعد الطريق، فماذا يقول أمثالنا، الذين قد أكثروا الذنوب والمعاصي والإسراف والتقصير في جنب الله -جل وعلا-؟

وقد غلب الخوف على علماءِ الصحابة، حتى إنَّ أبا بكر الصديق س، الذي لو وُضِع إيمانه في كفة ووضع إيمان الأمة في كفة ليس فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجح إيمانُه، كان يقول: "ليتني شعرة في صدر مؤمن".

وقال عمر -رضي الله عنه-: الويلُ لعمر إن لم يُغفَر له، ولما طُعِن س وقرُبَت وفاتُه، قال لابنه: ويلك، ضع خدِّي على الأرض لا أمَّ لك، ثمَّ قال: ويلي إن لم يرحمني ربي، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما هذا الخوف يا أمير المؤمنين، وقد فتح الله بك الفتوح، ومصَّر بك الأمصار، وفعل بك وفعل؟ فقال: وددت أن أنجوَ لا عليَّ ولا لي.

وكان في وجهه -رضي الله عنه- خطَّان أسودان من البكاء.

فإذا كان هذا حال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين بُشِّروا بالجِنان التي عرْضُها السموات والأرض، فأين نحن من هؤلاء؟ وأين أعمالُنا منهم؟ ألسنا في موقف صعب وعصيب؟

وقال ابن عمر -رضي الله عنه- في قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾، قال: هو عثمان -رضي الله عنه-.

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ليتني إذا متُّ لا أبعث.

فعجبًا لمن أقام على ذنبِه، وعصى ربَّه، ويعيش خالي القلب، عريضَ الضحكة، وكأنه قد أخذ عهدًا بدخول الجنة والنجاة من النار.

فأين الخوف الذي يدخل القلوبَ فيمنعها من المعاصي والآثام والقطيعة، ويدفعها للأعمال الصالحة؟

يقول يحيى بن معاذ: "من أعظم الاغترار أنَّ المذنب يرجو العفو من غير ندامة، ويتوقع القرب من الله بغير طاعة، وينتظر الجزاء بلا عمل، ويتمنى على الله الأماني".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي قضى على كل مخلوق بالفناء، وتفرد بالعز والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الدجى.

أما بعد:

فإنَّ السعادة الحقيقية هي في الإقبال على الله ولزوم طاعته، مع أخذ النصيب من الدنيا وجعلِها بلاغًا للآخرة.

إنَّ أصحاب الاستقامة هم السعداء حقًّا، وهم الملوكُ صدقًا، قال إبراهيم بن أدهم: "نحن واللهِ الملوكُ الأغنياء، نحن الذين قد تعجَّلْنا الراحة في الدنيا فلا نبالي على أيِّ حال أصبحْنا وأمسينا إذا أطعنا الله-عز وجل-".

وتأملوا هذا الكلام النفيس للإمام ابن القيم، حيث يذكر فيه حقيقة السعادة، ويصف فيه حال أحد السعداء بما لا مزيد عليه في الوصف، قال -رحمه الله تعالى-: "والإقبالُ على الله، والإنابةُ إليه، والرضا به وعنه، وامتلاءُ القلب من محبته، واللَّهجُ بذكره، والفرحُ والسرورُ بمعرفته ثوابٌ عاجل، وجنةٌ وعيشٌ لا نسبة لعيشِ الملوكِ إليه ألبتة.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إنَّ في الدنيا جنةً مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري، إنْ رُحْتُ فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلْتُ ملءَ هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شُكْرَ هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله أن يكون، وقال لي مرة: المحبوسُ من حُبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل القلعة وصار داخل سورِها نظر إليه وقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾.

وعَلِم الله ما رأيتُ أحدًا أطيبَ عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدَّها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، تلوح نضرةُ النعيم على وجهه، وكنَّا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منَّا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نسمع كلامه حتى يذهب ذلك كلُّه، وينقلب انشراحًا وقوةً وطمأنينة، فسبحان من أشهدَ عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها و نسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها".

فمن تواصل بقلبه مع ربِّه -سبحانه وتعالى-، بلغ منتهى السعادة، ولذلك كان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيبُ ما فيها؟ قال: محبةُ الله ومعرفتُه وذكره، وقال آخر: إنَّه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا.

وقال آخر: إنَّه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنَّهم لفي عيش طيب.

وكلما زاد إيمانُ الإنسان أحس بهذا الإحساس العظيم، وانظر في نفسك إذا عملت يومًا بعض الأعمال الصالحة، من صلاةٍ خاشعة، وصلةِ رحم، وصدقة، ومساعدةٍ لضعيف، فإنَّك ستجد في نهاية الأمر لذةً تجد حلاوتها على لسانك، قال ابن القيم: "فمحبةُ الله، ومعرفته، ودوامُ ذكره، والسكونُ إليه، وإفرادُه بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو همُّ العبد، هو جنةُ الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرةُ عين المحبين، وحياة العارفين، وإنَّما تقر عيون الناس به على حسب قرة عينه بالله، فمن قَرَّت عينه بالله قرَّت به كلُّ عين، ومَن لم تقر عينُه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات".

 

 

 

Powered by: GateGold

جميع الحقوق محفوظة لموقع الموقع الرسمي للدكتور سالم العجمي