عرض المادة

ستكبر يا صغيري..

10365 | الاثنين PM 06:10
2016-12-05

ستكبُر يا صغيري([1])

ها قد مرت الأيام..

لم أتصور أنها ستمر بهذه السرعة، وأن كثيراً من المواقف والأحداث ستصبح حديث الذكريات، وشيئاً من الماضي، أحدّث نفسي أو غيري بها قائلاً:«أتذكُر ذلك الموقف؟ أتذكر ذلك الحدث الذي مرَّ بنا؟».

ذكرياتٌ مقرونةٌ بالضحكات، وأحياناً ممزوجة بالدموع والآهات.

كنا نحلم بأن نكون، وربما كنا ما أردنا، وربما بقي الحلم مجرد أمنيات لم تزل باقية في المكان الذي حدثنا أنفسنا فيه بأننا سنكون وسنكون!!

كم أردنا أن نفعل ما نريد، ورغبنا أن نحصل على شيءٍ ما، فتأتي الأوامر الصارمة من الوالد بالمنع، فكنا نرى لصغر عقولنا أنه لا يريدً إسعادنا، وننسى أنه كان يكدحُ ليل نهار، ويمنع نفسه من كثير من الملذات، وحبَس نفْسه عن كثيرٍ من الأماكن والمجالس والعلاقات ليبنيَ لنا مجداً، ويخلّف لنا ذكراً طيباً، أو على الأقل عيشاً آمناً وحياةً هادئة.

كم كنا نرى تسلّط الأخ الأكبر، ونفسّر فعله قسوةً وغلظة، وإذا جاء مبيناً أن ما فعله إنما كان بدافع المحبة، نتوهم أنه كاذب، وأنه يبغضنا ولا يريد لنا الخير، بل يريد كسر شخصياتنا.

كم كانت تخرج منا العبارات الجارحة للوالد، للوالدة، للأخ الأكبر، للأخت الكبرى تحت شعار: «أنت لا تحبني»، ونجعلهم في صراع من أجلنا حتى في مشاعرهم، بين أن يستمروا على نهجهم في التربية وبين ما يعانونه من الحزن الشديد، حيث لم نمكنهم من تفهم مشاعرهم.

ثمَّ تمر الأيام تلو الأيام، وإذ بذلك الصغير يجني نجاحاته يوماً بعد يوم، ويعلم أنه لولا ذلك الوالد الذي كان يتصوره قاسياً، والأخ الأكبر الذي كان يراه متسلطاً، لم يصل إلى هذه الحياة المستقرة إلى حدٍّ كبير.

والأعجب من ذلك، أن ذلك الصغير الذي صار كبيراً، بدأ يربي أبناءه بنفس الطريقة التي كان يرفضها وحاول التخلص من قيودها، ليجني أبناؤه نجاح حياتهم، متحملاً في سبيل ذلك العبارات الجارحة، والاتهامات اللاذعة، ومع ذلك يستمر في سيره بغية أن يحقق لأبنائه العيش الرغد، ويساعدهم على تكوين الشخصية التي يستطيعون من خلالها أن يواجهوا صعوبة الحياة.

وأنت يا صغيري.. لأن تستطيع أن تفهم شعوري حتى تمضي بك الأيام، وتمر مسرعة بك كما مرت بأبيك، ثم تكبر يا صغيري، وتكون أباً، وتكونين أمّاً، وهناك ستعرف الشعور الذي كان يخالط أباك حينما كان يمنعك من كثيرٍ من الأمور التي ترى أنَّ منعها تعنّت، فتكتشف بعد مضي السنين أن منعها كان من أجلك، وإذ بك تكرر مع أبنائك ذات الدور الذي كان يقوم به والدك.

ستكبر يا صغيري.. وتعرف أنك كنت بالنسبة لوالدك شريان قلبه، وبهجة أيامه، وأنه كان يمنعك من أشياء كثيرة خوفاً عليك، وأنت ترى أنه لا يتعلّق بها نفعٌ ولا ضرر.

فلما أخذتَ مكانه، وكلِّفْتَ بمثل مهمته، إذ بك تفعل مثل صنيعه، وأحسست بمقدار ما كان يعانيه من حزن المشاعر ونيران العاطفة، حين كان يمنعك من أشياء كان قادراً على تحقيقها، ولكن منعه الخوف عليك أن يحضرها إليك أو يأذن لك بمقاربتها.

ستكبر يا صغيري.. وتكون أباً، وتكونين أمًّا، وتعرف أن ذلك الشخص الذي كنت تتوهمه قاسياً، والآخر الذي تراه متسلِّطاً، لم يفعل ذلك ليجني منك ربحاً مادياً، أو حياةً فارهة، بل إنه قدّم لك جهده وسهره، وحرصه الذي أتعب قلبه، لتعيش هانئاً، ثمَّ ولّى عنك ليعيش حياته التي حمل معها بقايا من تعب، وركاماً من هموم، دون أن يكلفك شيئاً، وقد فعل ما فعل لتعيش سعيداً.

ستكبر يا صغيري.. وتعلم أن ذلك الشخص الذي عاش من أجلك -رغم ما فيه من النقص- شخصيةٌ لن تكرر، ليس لأنه قدّم لك ما لايستطيع أحدٌ أن يقدّمه، ولكن لأنه كان يحمل قلباً يخاف عليك، وأنك كنت نبضه.



([1])  18/2/1438هـ ، 18/11/2016م.

Powered by: GateGold

جميع الحقوق محفوظة لموقع الموقع الرسمي للدكتور سالم العجمي