عرض المادة

تقلب الدنيا

22897 | الاحد AM 09:00
2011-07-17

تقلب الدنيا

إن هذه الدنيا تتقلب بتقلب الأيام والليالي، لا يطمع منها بدوام نعيم، ولا يُبكى على فائت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شـرٌّ منه حتى تلقوا ربكم».

وكانت ناقة رسول الله القصواء لا تُسبَق، فجاء أعرابي فسبقها، فشق ذلك على الصحابة ؛ فقال : «إن حقًّا على الله ألا يرفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه».

وكان معاوية يقول: معروفُ زمانِنا منكرُ زمانٍ قد مضى، ومنكرُه معروفُ زمانٍ لم يأت.

وحكى شيخٌ من العرب قال: بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع الحميري بهدايا، فمكثتُ شهرًا لا أصل إليه، ثم بعد ذلك أشرف إشرافة من كُوَّة، فخرَّ له مَن حول القصر سُجَّدًا، ثم رأيته من بعد ذلك وقد هاجر إلى حمص واشترى بدرهم لحمًا، وسمطه خلف دابته؛ وهو القائل هذه الأبيات:

أف للدنيا إذا كانت كذا

 أنا منها في بلاء وأذى
 

إن صفا عيشُ امرئٍ في صبحها

جرعته ممسيًا كأس القذى
 

ولقد كنت إذا ما قيل من

أنعم العالم عيشًا قيل ذا

 

وقال يونس بن ميسرة: لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه..

 

 

وما مـرَّ يومٌ أرتجي فيه راحة

 فأخْبَرُه إلا بكيت على أمسي

 

لما قَتَل عامرُ بن إسماعيل مروانَ بن محمد ونزل في داره وقعد على فرشه؛ دخلت عليه عبدةُ بنت مروان فقالت: يا عامر، إن دهرًا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليه لقد أبلغ في عظتك.

وقال عبد الملك بن عمير: رأيت رأس الحسين t بين يدي ابن زياد في قصر الكوفة، ثم رأيت رأس زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك، قال سفيان: فقلت له: كم كان بين أول الرءوس وآخرها؟ قال: اثنتا عشرة سنة.

ودخل مسلمةُ بن زيد بن وهب على عبد الملك بن مروان فقال له: أي الزمان أدركته أفضل، وأي الملوك أكمل؟ فقال: أمَّا الملوك فلم أر إلا حامدًا وذامًّا، وأما الزمان فيُرفَع فيه أقوامٌ ويوضع آخرون، وكلُّهم يَذكُر أنه يُبلى جديدُهم ويُفَرَّق عديدُهم؛ ويهرم صغيرُهم ويهلِك كبيرُهم.

وقال بعضهم:

 

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم

والمنكرون لكل أمر منكرِ
 

وبقيت في خلف يزين بعضُه

بعضًا ليدفع معورٌ عن معورِ
 

حلف الزمان ليَأتينَّ بمثلهم

حنثت يمينك يا زمان فكفر
 

 

وكان يقال: زمام العافية بيد البلاء، ورأس السلامة تحت جناح العطب.

وقيل: إذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث يأتي الخير، وبتقلب الدهر تُعرَف جواهر الرجال.

قال محمد بن هلال: بعث إليَّ المعمَّر برسالة يطلب مني بغلة مسرجة ولم تكن له عندي منزلة مرعية، فرددت الرسالة ولم أجبه عنها، ثم إنه بعثها إليَّ وكتب على ظهرها:

 

عسى سائل ذو حاجة إن منعته

من اليوم سؤلًا أن يكون له غدُ
 

فإنك لا تدري إذا جاء سائل

أأنت بما تعطيه أو هو أسعدُ

 

فأعدتُها إليه من غير جواب كما فعلت أولًا، ثم إنَّ الزمان قد دار فصُرِف عني ما كنت فيه من العُلا، ووُزِّر المعمَّر، وكنت إذ ذاك متوليًا شئونًا شتى، فأُرسلت إلى شيراز في مهَمَّة، فوردت عليه وأنا لا أشك في قتلي لما تقدم من سوء فعلي معه، فقرَّبني وأكرمني أيامًا وأنا من شأنه متعجب.

فلما كان بعد أيام قمت من مجلسه منصرفًا فاتبعني الحاجب وقال: الوزير يريد أن يخلو بك، فلما خلا مجلسه استدعاني، وأسرَّ إلى بعض خدمه شيئًا، فمضى وعاد ومعه الرسالة بعينها، فلما أتى قرأت بحيث يسمع: (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا)، فقال لي: لا تُرَع، أوقَفتك على سوء فعلك حتى لا تستصغر بعدها أمرًا؛ ولا تطرح مراعاة العواقب فيصير الدهر لك غير صاحب، وليكن هذا الفعل لأخلاقك مهذِّبًا؛ ثم خلع عليَّ ووَصَلني وردَّني إلى منصبي.

وما أجمل قول القائل:

 

لا تحقرنَّ امرأً قد كان ذا ضعة

 فكم وضيع من الأقوام قد رأسا
 

فرُبَّ قومٍ جفوناهم فلم نرهم  

 أهلًا لخدمتنا صاروا لنا رؤسا

 

 

 

وقال بعضهم: نحن في زمن لا يزداد الخيـرُ فيه إلا إدبارًا، والشرُّ إلا إقبالًا، والشيطانُ في هلاك الناس إلا طمعًا، فاضرب بطرفك حيث شئت هل تنظر إلا فقيرًا يكابد فقرًا، أو غنيًّا بدَّل نعمة الله كفرًا، أو بخيلًا اتخذ بحق الله وفرًا، أو متمردًا كأنَّ بسمعه عن سماع المواعظ وقرًا.

وقال آخر: نحن في زمان إذا ذكرنا الموتى حييت القلوب، وإذا ذكرنا الأحياء ماتت القلوب.

وقال الأمير ابن منقذ:

أما والذي لا يملك الأمر غيره

ومن هو بالسر المكتم أعلم
 

لئن كان كتمان المصائب مؤلمًا

لإعلانها عندي أشد وأعظم
 

وبي كل ما يبكي العيون أقله

 وإن كنت منه دائمًا أتبسم
 

 

قال الشاعر:

وقد تسلب الأيام حالات أهلها 

وتعدو على أسد الرجال الثعالب

 

 

وما زال نعيم عن أمة وحل بهم الحدثان إلا لتركهم أمر الله تعالى، وتعديهم حدود الله سبحانه وتعالى، فتراهم يمسون وقد ملكوا الدنيا فإذا أصبحوا فإذا بأيديهم فارغة، يبكون على أطلال الماضي ويندبون حظهم العاثر..

قال علي بن أبي طالب t: وايم الله ما كان قوم قط في خفض عيش فزال عنهم إلا بذنوب اقترفوها، لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، ولو أنَّ الناس حين ينزل بهم الفقر ويزول عنهم الغِنى فزعوا إلى ربهم بصدق نياتهم، لرَدَّ عليهم كلَّ شارد؛ وأصلح لهم كل فاسد.

وقيل: أيام الدهر ثلاثة: يوم مضى لا يعود إليك، ويوم أنت فيه لا يدوم عليك، ويوم مستقبل لا تدري ما حاله ولا تعرف من أهله.

وحسن بالمرء العاقل حين وقوع البلاء أن يكون له أسوة فيمن ابتلي بمثل بلائه أو أشد فإنَّ هذا مما يسلي النفس ويصبر القلب، مع احتساب الأجر عند الله تعالى فيما وقع له من البلاء،  قال r: «ليودن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء».

والهموم التي تعرض للقلوب -إن احتسبها المرء- كانت كفاراتٍ للذنوب، قال سفيان الثوري: لم يفقه عندنا من لم يعد البلاءَ نعمة والرخاء مصيبة.

وسمع حكيم رجلًا يقول لآخر: لا أراك الله مكروهًا، فقال: كأنك دعوت عليه بالموت، فإن صاحب الدنيا لابد أن يرى مكروهًا.

وقال ابن عيينة: الدنيا كلها غموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح.

وقال مطرف: ما نزل بي مكروه قط فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فاستصغرته.

ومن جميل ما يُذكر أنَّ عروة بن الزبير كان صبورًا حين ابتلي، حُكي أنه خرج إلى الوليد بن يزيد فوطئ عظمًا، فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب، فجمع له الوليد الأطباء، فأجمع رأيهم على قطع رجله، فقالوا له: اشرب مرقدًا، فقال: ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى، فأحمي له المنشار، وقطعت رجله، فقال: ضعوها بين يدي ولم يتوجع، ثم قال: لئن كنت ابتُليتُ في عضو فقد عوفيتُ في أعضاء، فبينما هو كذلك إذ أتاه خبر ولده أنه اطلع من سطح على دواب الوليد، فسقط بينها فمات، فقال: الحمد لله على كل حال؛ لئن أَخَذتَ واحدًا لقد أبقيتَ جماعة.

وقدم على الوليد وفدٌ من عبس فيهم شيخ ضرير، فسأله عن حاله وسبب ذهاب بصره، فقال: خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي، ولا أعلم عبسيًّا يزيد ماله على مالي، فاسترحنا في بطن واد، فطرَقَنا سيل، فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد غيرَ صبيٍّ صغيرٍ وبعير، فشرد البعير، فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لآخذ البعير، فسمعت صيحة الصغير، فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه، فرجعت إلى البعير، فحطم وجهي برجليه، فذهبت عيناي، فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل، فقال الوليد: اذهبوا إلى عروة ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.

وسئل أحدهم عن حاله في نكبته، فقال: عوَّلت على أربعة أشياء: أولها أني قلت: القضاء والقدر لا بد من جريانهما، الثاني: أني قلت: إن لم أصبر فما أصنع، الثالث: أني قلت: قد كان يجوز أن يكون أعظم من هذا، الرابع: أني قلت: لعل الفرج قريب.

ومهما مسَّ المرء من الضنك فإنه سيعقب ذلك العسرَ يسرٌ وفرج؛ قال تعالى:(سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا).

وقد أحسن من قال:

 

 

ولرب نازلة يضيق بها الفتى

ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت

حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج

Powered by: GateGold

جميع الحقوق محفوظة لموقع الموقع الرسمي للدكتور سالم العجمي