عرض المادة
حكمة تشبيه الله سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به، واتبع هواه
2009-06-25
حكمة تشبيه الله سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به، واتبع هواه
قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175-176]
فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا، وهمته لاتتعدى بطنه، وأشدها شرها وحرصا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا، والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم الطري، والعذرة أحب اليه من الحلوى، واذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال رزية نبحه وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته، واذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى....
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لافؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أوتتركه يلهث، فهو مثل الذى يترك الهدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطع، قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث، وهكذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها، فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره على الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، واذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا يلهث قائما وقاعدا وماشيا وواقفا، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث، فهكذا مشبهه شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف، فإن حملت عليه الموعظة والنصيحة فهو يلهف، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف.
قال مجاهد: وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به.
وقال ابن عباس: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تركته لم يهتد خيرا، كالكلب إن كان رابضا لهث وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لايثبت على الحق، دعي أو لم يدع، وعظ أم لم يوعظ، كالكلب يلهث طرد أو ترك.
وقال عطاء: ينبح حملت عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد ابن قتيبة: كل شىء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب، فإنما يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث، ونظيره قوله سبحانه: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}، وتأمل مافي هذا المثل من الحكم والمعنى: فمنها قوله {آتيناه آياتنا} فأخبر سبحانه أنه هو الذى آتاه آياته، فإنها نعمة، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: {فانسلخ منها} أى خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد ينسلخ عن اللحم، ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو الذى تسبب إلى انسلاخه منها باتباع هواه، ومنها قوله سبحانه:{فأتبعه الشيطان} أي لحقه وأدركه كما قال في فرعون:{فأتبعوهم مشرقين}، وكان محفوظا محروسا بآيات الله، محميّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته، فكان من الغاوين العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه، كعلماء السوء، ومنها أنه سبحانه قال:{ولوشئنا لرفعناه بها}: فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لاينفع.