عرض المادة
أمراض القلوب
2015-04-10
أمراض القلوب
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضلَّ الضالون، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنَّ الاهتمام بشأنِ القلوب وإصلاحِها كان من دأب الصالحين, وذلك لمنزلة القلب من الأعضاء حيث إنه بالنسبة إليها كالمَلِك بالنسبة للجنود, فإذا استقام استقامت وإذا زاغ فسدت وزاغت, فهي تابعة له على كل حال, تميل معه حيث مال, وقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ولما علم عدوُّ الله إبليس هذه الحقيقة وتيقَّن منها، أقبل على القلوب بأنواع الوساوس والشبهات, وزيَّن لها الباطل والشهوات, ليصدها عن السبيل القويم والصراط المستقيم، ولا زال يعمل جاهدًا في سبيل تحقيق غايته بإفساد القلب وصدِّه عن الحق, فإن عجز عن ذلك نصب له من الحِيل والمكائد ما يؤخره به عن بلوغ الكمال، حتى يجد المسلم نفسه بعد ذلك في جهاد شاق, وعناء مستمر, يتلمس أسباب النجاة, ولن يجدها، إلا إذا استعان بالله, والتجأ إلى خالقه ومولاه, وأقبل عليه إقبالَ الخائف الذليل, الذي يخشى أن ينصرف قلبه عن الهدى, فيضيع في مهاوي الردى.
ولعلمه بأحوال القلوب وما يعرض لها, فقد كان النبي ج وهو أشد الناس إيمانًا وثباتًا يدعوا الله تعالى أنْ يثبِّت قلبه على الحق والدين، قال أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت: يا نبي الله, آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم, إنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلِّبُها كيف يشاء".
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: "إنما سُمي القلب من تقلبه, وإنَّ مثل القلب كمثل ريشةٍ بأرضِ فضاء, تضربها الريح ظهرًا لبطن".
فإن أراد اللهُ بعبده خيرًا، فتح له أبواب التوفيق، وهدى قلبه إلى الصلاح، فاكتسب من العلم النافع والعمل الصالح ما فيه حياة قلبه, وإنْ عمد إلى العمل السيِّئ كان ذلك دليلًا على فساد قلبه, فتراه يتخبط في الظلمات، ويزداد مرضًا إلى مرضٍ حتى يموت ولا يبقى فيه حياة ولا نور.
وهذه القلوب, ما دامت تنبض بها الحياة, فإنها مُعَرَّضة للأمراض والآفات, وفتنِ الشبهات والشهوات, والناجي منها من نَجَّاه الله عز وجل, قال صلى الله عليه وسلم:"تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُودًا عودًا، فأيُّ قلب أشربها نُكتت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نُكتت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُربَادًّا كالكوز مجخِّيًا لا يعرف مَعروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه"، أي: يكون مائلًا عن الاستقامة والاعتدال, فشبَّه القلب لذي لا يعي خيرًا بالكوب المائل الذي لا يثبت فيه شيءٌ.
هذا وإنَّ أمراض القلب كثيرة, وأعظمها الرياء وفساد القصد والنية, وحب الشهوة الخفية, وهذا من أخطر ما يضر القلبَ ويفسدُه، حيث يعمل المرءُ العمل الصالح ويحبُّ أن يُمدح عليه, أو أن يحسِّن عمله لما يرى من نظر الناس إليه, قال صلى الله عليه وسلم:"إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية".
قال سفيان بن عيينة: إياكم والشهوة الخفية، قالوا: وما هي؟ قال: الذي يحب أن يُمدح على الخير.
والرياء مفسدٌ للأعمال, محبطٌ للأجر, متَوعَّدٌ صاحبه بالإثمِ والعقوبة, وتأمل هذا الحديث العظيم الذي يبين فساد عمل المرائي, واستحقاقه للعذاب, رغم أنَّ ما قدمه من عمل هو من أجلِّ الأعمالِ وأفضلِها، ولكن لمَّا أحاط بها الرياء أبطلها ومحق بركتها, قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أول ما يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشْهدت، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجلٌ تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمت العلم وعَلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمتَ ليقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثمَّ أُمِر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار".
فعلى المسلم أن يكون مخلصًا بعمله لله رب العالمين, وأن يبتغي وجهَ الله بذلك، ولا يجعل عمل الآخرة وسيلةً للحصول على متاعٍ زائلٍ في هذه الدنيا الفانية, وأنْ يدَّخِر عمله الصالح ليوم الفقر والحاجة،{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم}.
قال أهل العلم: أي لا يقي المرء من عذاب الله مالٌ، ولو افتدى بملءِ الأرض ذهبًا, ولا بنونَ، ولو افتدى بمن في الأرض جميعًا, فلا ينفعه يومئذٍ إلا الإيمان بالله، وإخلاص الدين له, والتبرؤ من الشرك، قال الحسن البصري: "القلب السليمُ من الشرك"، وقال سعيد بن المسيّب: "القلبُ السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن, لأنَّ قلب الكافر والمنافق مريض".
قال ابن القيم : "العمل بغير إخلاص ولا اقتداء, كالمسافر يملأ جرابه رملًا، يثقله ولا ينفعه".
فالرياء من أخطر أمراض القلوبِ والأوبئة الأخلاقية الضارة التي تحتاج إلى يقظة دائمة وعلاج مستمر, ولا يعمَد إلى ذلك إلا من رقَّ دينه وعميت بصيرته، حيث يبيع الآجلَ بالعاجل والباقي بالفاني، طمعًا في أن يحصل على شيءٍ من حطام الدنيا، قد يحصل له وقد لا يحصل, فقد كتب الله مقادير كلِّ شيءٍ, ولن يأتي المرء إلا ما قُدِّر له ولو بذل الأسباب المادية المحسوسة كلَّها، فكيف إذا أراد أن يتوصل إلى ذلك عن طريق المتاجرة بالدين, قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}، وقال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
ومن تيقَّن هذا حق اليقين قطع أسباب الرجاء إلا من الله, وعلم أنَّ الأمور كلها بيده سبحانه, فلم يسألها إلا منه عز وجل, فضلًا عن أن يبيع دينه رجاء أن يحصل على متاع, فيرائي بعمله بشرًا مثله، عبيدًا ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
ومن أعظم أسباب فساد النيةِ والقصدِ: حبُّ الرئاسة والتصدر, والاجتهاد في حب الظهور بكل وسيلة وسبيل، حتى لو كان ذلك عن طريق الإفك والباطل، ولذا ترى أصحاب الرئاسات المبتغين لإقامة رئاستهم بأي طريق، إذا جاء الحقُّ مخالفًا لأهوائهم، معارضًا لطريق رئاستهم وتصدرهم حادوا عنه, فإنْ لم يجدوا بدًّا إلا ردَّه، ردُّوه بكل سبيل، وعمدوا إلى التحريف والتأويل, وشوَّهوا صورة أهل الحق الذي يبيِّنون حقيقتهم للخلق, ولفَّقوا لهم التهم الجزاف، وصدوا النَّاس عنهم عن طريق وصفهم بأشنع الأوصاف، وإذا رأى عاشقو الرئاسةِ والتصدرِ أنَّ الحق قد جاء موافقًا لأهوائهم استجابوا له، وأتوا إليه مسارعين مذعنين, لا لأنه حقٌّ، لكن لأنه جاء موافقًا لأغراضهم وأهوائهم، قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُالْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والعبد المخلص هو الذي يعمل لله يرجو ثواب الله, ويجعل هذه الدنيا تبعًا لدينه، ويعلم علم اليقين أن عطاء الدنيا ليس بميزان عند ذوي البصيرة, فقد يُعطى منها الكافر ويمنع منها المؤمن لحكمة يريدها الله، فلا يقاتل من أجلها، ولأن يكون المرء تابعًا في الخير, أفضل من أن يكون متبوعًا في الشر, أو رأسًا في الضلالة.
كن بخمول النفوس قانعْ
لا تطلب الذكر في المجامعْ
فلن يزال الفتى بخيرٍ
ما لم تُشِــر نحوه الأصابعْ
ومن أسباب مرض القلوب، تعاطي المعاصي والذنوب حتى تصرف القلب عن صحته واستقامته, فلا يزال مريضًا معلولًا لا ينتفع بالأدوية التي فيها حياته وصلاحه، وذلك أن تأثير الذنوب في القلوب أشد من تأثير الأمراض في الأبدان, ولا دواءَ للقلب إلا بترك الذنب.
ولن يصل المذنب إلى صحةِ قلبه إلا بمخالفة هوى النفس الذي يقطع طريق العبد عن الوصول إلى ربه وخالقه، فالمعاصي سموم القلب, وسبب لمرضه وهلاكه, قال ابن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخيرٌ لنفسك عصيانها
والعبد ما دام أنه يعيش في هذه الحياة، فلابدَّ أن يحصل منه الخطأ والزلل, فإنْ أصاب شيئًا من ذلك سارع إلى محوِ أثره بالتوبة والاستغفار, والحسنات الماحية، فإن هو وفِّق لذلك, حمد اللهَ تعالى أن فتح له باب التوبة والإنابة, لأنَّ هذا من علامات توفيق الله لعبده، فإنَّ من أعظم الخذلان أن يحول الله عز وجل بين العبد وبين التوبة, قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وقلبه}, قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الإيمان".
هذا وإن من أعظم ما يقود المرء إلى المعاصي، إطلاقُ لسانه في فضول الكلام, فمن أرخى عنان لسانه باء بالخسران, فإن اللسان كسبُعٍ عقور إن أمِنْتَه عدا عليك فقتلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم".
وحصائد الألسنة: جزاء الكلام وعقوباته, فإنَّ الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات, ويوم القيامة يحصد ما زرع.
ولخطورة أمر اللسان فقد حذر منه السلف وشددوا في شأنه، قال ابن مسعود س: "واللهِ الذي لا إله إلا هو ما على ظهرِ الأرض شيءٌ أحوج إلى طولِ سجنٍ من لسان".
وقال أبو وائل: ارتقى ابن عباس رضي الله عنهما على الصفا فأخذ بلسانه فقال: "يا لسان، قل خيرًا تغنم، واسكت عن شرٍّ تسلم، من قبل أن تندم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثر خطايا ابنِ آدم في لسانه".
فآفاتُ اللسان كثيرةٌ، كالغيبةِ، والنميمةِ، والكذبِ، والفحشِ، والخوض في الباطلِ، وإيذاء الخَلْق وهتك أستارهم، وغير ذلك كثير، والموفَّق من رزقه الله الصمتَ إلا عن بيانِ الحقِّ والدلالةِ على الخير.
كما أنَّ كثرة الكلام بابٌ خطير إلى الوقوع في الحرام, فقد يبدأ المرءُ بكلام مباح، ثم تتابع الأحداث وإذ به سقط في كبيرة من كبائر الذنوب وهو لا يشعر, فكيف إذا تعاطى ذلك عن علم وتمييز.
كما أنَّ كثرةَ الخوضِ في الأحاديث علامةٌ على رقةِ الدين, وقد حذَّر السلف من ذلك أشدَّ تحذير, قال الحسن البصري: كانوا يقولون: إنَّ لسانَ المؤمنِ وراءَ قلبه، فإذا أراد أن يتكلم بشيءٍ تدبَّره بقلبه ثم أمضاه, وإنَّ لسانَ المنافق أمام قلبه, فإذا همَّ بشيءٍ أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه.
ومن أمراض القلوبِ: حسدُ الناس على ما آتاهم الله من فضله، فتجد الحاسدَ أضيقَ الناس عيشًا وأبأسهم حالًا، يغتمُّ إذا أُعطي المحسود, ويفرح إذا زالت عنه النعمة, وكأنه يحاسب الله على قضائه وقدره, فيقودُه ذلك إلى كفرِ نعمة الله عليه والتسخطِ على أقداره، وقد يزيد اللهُ المحسودَ نعمة, فيزداد الحاسدُ غمًّا إلى غم, وكفى به بذلك عذابًا، كما قال القائل: قاتل اللهُ الحسدَ ما أعدلَه، بدأ بصاحبه فقتله، قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}، وقد يزيد الحاسدُ فعله شناعةً بالتعدي على المحسود بالكذب والغيبة والنميمة وهتك الستر وتلفيق الأراجيف، وهذه من كبائر الذنوب والظلمِ الذي لا يرضاه الله عز وجل، وحريٌّ أنْ يقتصَّ سبحانه للمظلوم ممن ظلمه عاجلًا غير آجل.
فما أعجب أن يتعرض العاقل إلى أسباب سخط الله تعالى من غيرِ نفعٍ يصل إليه, إضافةً إلى ما يصيبه من الأمراض والآلام بسبب أمرٍ ليس للمحسود فيه تقديمٌ ولا تأخير، بل هو من عطاء الله سبحانه.
والحسد داءٌ كامنٌ في النفوس, ولكن الناس في ردِّه متفاوتون على حسب ما أعطاهم الله عز وجل من الثبات واليقين, وقد قال بعض السلف: لا يخلو جسدٌ من حسد, ولكنَّ الكريم يخفيه، واللئيم يُبديه.
ومن أمراض القلوب: العُجْبُ، وهو استعظامُ النعمة والركونُ إليها مع نسيان إضافتها إلى الله سبحانه، وقد ذم الله سبحانه العُجْبَ والالتفاتَ إليه، فقال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، فقد يُعجَب المرءُ بعملِه أو نفسِه أو عدَّتِه، فيكله اللهُ إلى نفسه فيهلك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا، لخَشِيتُ عليكم ما هو أشدُّ: العجب".
فلْيحذر المرءُ أن يُعجَب بشيءٍ من الأسباب المادية، كالمالِ، وكثرةِ الأبناء، أو النسب، أو طاعتِه وعملِه الصالح، دون الالتفات إلى نعمة الله عليه، فقد يكون ذلك سببًا لانفتاح أبواب الشر عليه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: الهلاك في اثنتين: القنوطُ والعُجْب. وقال مطرِّف: لأن أبيتُ نائمًا، وأصبحُ نادمًا، أحبُّ إليَّ من أن أبِيتَ قائمًا وأصبح معجبًا.
وجاء عن بشرِ بن منصور أنه صلى فأطال الصلاة, فقال بعد سلامه لشخصٍ كان ينظر إليه: لا يعجبك ما رأيتَ مني, فإنَّ إبليسَ قد عبَدَ اللهَ مع الملائكة مدةً طويلة ثم صار إلى ما صار إليه.
ومِن أعظم ما يعالج المرء به نفسَه إنْ رأى إعجابَها بما تحوز من علم أو عمل أو دنيا: أنْ يعلم أنَّ اللهَ تعالى هو المقدر له ذلك, والمنعمُ عليه بالتوفيق لنيل ذلك, فكيف يُعجَب بما ليس إليه ولا منه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
فإنَّ من أعظم أمراض القلوب قسوة القلب، فإنَّ القلوبَ القاسيةَ أبعدُ القلوب من الله, وإذا قسا القلب قحطت العيون, قال عيسى عليه السلام: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله, فتقسو قلوبكم, وإن القلب القاسي بعيد من الله".
وقسوة القلب من علاماتِ اليهود, ومن اتصف بها فقد تَشَبَّه بهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
ومن أعظم ما يعالج فيه المسلم قسوةَ قلبه: الإكثارُ من ذكر الله.
قال ابن تيمية :: "الذكر للقلب كالماءِ للسمك, فكيف يكون حالُ السمك إذا أُخرج من الماء"، وذلك أنَّ القلب إذا استولت عليه الغفلةُ اشتدت به القسوة، فإذا ذكَرَ الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار, وما أذيبت قسوةُ القلب بمثل ذكر الله سبحانه، قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي, قال: أذِبْه بالذكر.
ومن علاج قسوة القلب: النظرُ في حال الضعفاء، فقد أتى رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكو قسوةَ قلبه، فقال: "أتحبُّ أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه, وأطعمه من طعامك, يلين قلبك وتدرك حاجتك".
ومما يعالج قسوةَ القلب: تعلُّق القلب بالله تعالى، استسقى موسى من نصير في الناس عام ثلاثٍ وتسعين حين أقحطوا بإفريقية, فأمرهم بالصيام, ثمَّ خرج بهم, وميَّز أهلَ الذمةِ عن المسلمين, وفرَّق بين البهائم وأولادها, ثمَّ أمر بالبكاء، وارتفاعِ الضجيج, وهو يدعو الله تعالى حتى انتصف النهار, ثمَّ نزل، فقيل له: ألا دعوتَ لأميرِ المؤمنين؟ فقال: هذا موطنٌ لا يذكَر فيه إلا الله عز وجل، فسقاهم الله سبحانه لما قال ذلك.
ومما يعالج المرءُ به قسوةَ قلبه: تذكر الله والدار الآخرة, والبكاء على الذنوب والمعاصي التي جناها, ولا يعلم ما الله فاعلٌ بها.
ضحك زيادٌ ذاتَ يوم حتى علا صوته، ثم قال: أستغفر الله, وبكى بكاءً شديدًا، فقال له جلساؤه بعد ذلك المجلس: ما رأينا -أصلحَ اللهُ الأميرَ- بكاءً في إثْر ضحكٍ أسرع من بكائك بالأمس، فقال: إني واللهِ ذكرتُ ذنبًا أذنبته, كنتُ به حينئذٍ مسرورًا, فذكرته فبكيت خوفًا من عاقبته، ثم بكى.
نسأل الله أن يصلح قلوبنا, ويغفر زلاتنا.