عرض المادة
غزوة بدر
2014-03-13
غزوة بدر
الحمد لله المعبود في أرضه وسمائه؛ المجيب دعاء من يدعوه بأسمائه؛ المنفرد بالقدرة القاهرة؛ المتوحد بالقوة الظاهرة؛ وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وصلى الله وسلم على الذي رفعه باصطفائه إلى محله المنيف؛ وبعثه إلى الناس كافة بالدين القيِّم الحنيف؛ وجعله أفضل من كان وأفضل من يكون؛ وأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد:
ففي العام الثاني من الهجرة جاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان جاء مقبلاً من الشام في قافلة عظيمة لقريش فيها أموال وتجارة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فندبهم وقال: من كان ظَهرُه حاضراً فليركب معنا؛ هذه عِير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أنْ ينفلكموها، ؛ فانتدب الناس فخفَّ بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مسرعين إلى جهة بدر، وقد بلغ عددهم يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
قال عبد الله بن مسعود: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما كانت عَقْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: نحن نمشي عنك؛ فقال: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» .
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ممن لقي من الركبان تخوفاً على أموال الناس؛ حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولقافلتك؛ فأخذ حذره عند ذلك، واستأجر ضمضماً الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمرَه أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكة؛ فلما دخلها شق قميصه وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث .
ثم إنّ أبا سفيان وجه قافلته ناحية الساحل؛ وترك بدراً يساره؛ وانطلق مسرعاً لينجو بها؛ فلما رأى أنه قد حمى قافلته أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدراً- وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوقٌ كل عام- فنقيم عليه ثلاثاً؛ فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر؛ وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا؛ فلا يزالون يهابوننا أبداً .
فقال الأخنس بن شريق-وقد كان مطاعاً في قومه-: يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جُبْنَها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة؛ فأطاعوه ورجعوا فلم يشهدها زهريٌّ واحد .
ثم قام عتبةُ خطيباً فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابنَ عمِّه؛ أو ابن خاله؛ أو رجلاً من عشيرته؛ فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، يا قوم اعصبوها برأسي وقولوا جَبُن عتبةُ بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم . فقال أبو جهل: يا قوم انتفخ والله سَحَر عتبة حين رأى محمداً وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبةَ ما قال، ولكنه رأى محمداً وأصحابه وفيهم ابنُه؛ فقد تخوفكم عليه، فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة؛ واستوثقوا على ما هم عليه من الشر .
فخرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائةٍ وخمسين مقاتلاً؛ معهم مائتا فرس يقودونها؛ ومعهم المغنيات يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين .
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً أتاه الخبر عن قريش ومسيرِهم لقتال المسلمين، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش؛ فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله؛ امض لما أراك الله فنحن معك؛ والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرَك الغماد"موضع باليمن" لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليَّ أيها الناس؛ وإنما كان يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة؛ قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وهذا يعني أنهم لم يبايعوه على القتال معه خارج المدينة؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصارُ ترى عليها نصرَه إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه .
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال؛ قام سعد بن معاذ صلى الله عليه وسلم وقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل؛ فقال سعدٌ: قد آمنا بك وصدقناك؛ وشهدنا أن ما جئت به هو الحق؛ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحرَ فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحد؛ ولعلك أن تكون خرجت لأمرٍ؛ وأحدث الله لك غيرَه؛ فانظر الذي أحدث الله إليك فامضِ؛ فصِلْ حبال من شئت؛ واقطع حبال من شئت؛ وعادِ من شئت؛ وسالم من شئت؛ وخذ من أموالنا ما شئت؛ وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت؛ وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً؛ إنا لصُبُرٌ في الحرب؛ صُدُقٌ عند اللقاء؛ ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فَسِر على بركة الله .
فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشَّطه؛ ثم قال: سيروا وابشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين؛ واللهِ لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم .
فقام سعد بن معاذ وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله؛ ألا نبني لك عريشاً تكون فيه؛ ونُعِدّ عندك ركائبك، ثم نلقى عدوَّنا؛ فإن أعزَّنا الله وأظهَرَنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوامٌ ما نحن بأشدَّ حباً لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم؛ يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير .
ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ يكون فيه، وقام صلى الله عليه وسلم يصف أصحابَه ويعبؤهم أحسن تعبئة؛ وبينما هو يعدل صفوف أصحابه بسهم كان في يده، إذ مرَّ بسَوادِ بنِ غزية وهو متقدم عن الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استوِ يا سواد؛ فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأَقِدْني فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، فاعتنقه سوادُ وقبَّل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردْتُ أن يكون آخِرَ العهد بك أن يَمَسَّ جلدي جلدَك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير .
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعديل الصفوف؛ رجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره؛ فوقف سعد بن معاذ على باب العريش متقلداً سيفه ومعه رجال من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه من أن يدهمه العدو من المشركين؛ وقد هيئت له النجائب ليركبها إن احتاج إليها حتى يرجع إلى المدينة كما أشار عليه سعد بن معاذ بذلك .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الابتهال والتضرع والدعاء؛ يقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد بعدها في الأرض؛ وجعل يهتف بربه عز وجلّ ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني؛ اللهم نصرك؛ ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه؛ وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه ويسوي عليه رداءه؛ ويقول مشفقاً عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعضَ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك؛ وقد كان رضي الله عنه رقيقَ القلب شديد الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأنزل الله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئنَّ به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إنه عزيز حكيم) ، قال ابن عباس: مردفين؛ وراء كلِّ مَلَكٍ مَلَك .
فخفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش؛ ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصرُ الله، هذا جبريل آخذٌ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع؛ يعني الغبار.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يثب في الدرع وهو يقول: (سيُهزم الجمع ويولُّون الدُّبر)؛ قال عمر: لما نزل قوله تعالى: (سيُهزم الجمع ويولُّون الدُّبر) قلت: أي جمع يهزم وأي جمع يغلب؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: (سيُهزم الجمع ويولُّون الدُّبر)، فعرفت تأويلها .
ولما تقابل الفريقان قلل الله كلاً منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء؛ وهؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة، قال الله تعالى: (وإذ يركموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور).
وبعث الله ماء من السماء؛ فأصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه منها ماءُ لَبَّد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشاً منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه؛ قال الله تعالى: (إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبّت به الأقدام)؛ فطهرهم ظاهراً وباطناً؛ وثبت أقدامهم وشجع قلوبهم وأذهب عنهم تخذيل الشيطان وتخويفَه للنفوس ووسوستَه، وهذا تثبيت الباطن والظاهر .
ولما تواجه الفريقان وحضر الخصمان؛ كان أولَ مَن قُتِل من المشركين الأسودُ بنُ عبد الأسد المخزومي؛ وكان رجلاً شرساً سيءَ الخُلق؛ فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنَّه أو لأموتنَّ دونه، فلما خرج؛ نهض إليه حمزةُ ابن عبد المطلب، فلما التقيا ضربَه حمزةُ فقطع ساقه وهو دون الحوض؛ فوقع على ظهره تشخب رجلُه دماً، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن يَبَرَّ يمينه؛ فأتبعه حمزةُ بضربةٍ حتى قتله في الحوض .
فحمي عند ذلك عتبةُ بن ربيعة؛ وأراد أن يظهر شجاعته، فبرز بين أخيه شيبة وابنِه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البِراز؛ فخرج إليهم فتيةٌ من الأنصار ثلاثة؛ وهم عوف ومعاذ ابنا الحارث وأمهما عفراء؛ والثالث عبد الله بن رواحة؛ فقالوا من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار؛ فقالوا ما لنا بكم من حاجة؛ ونادى مناديهم: يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدةُ بنُ الحارث، وقم يا حمزةُ، وقم يا عليّ .
فبارز عبيدةُ-وكان أسنَّ القوم- عتبةَ، وبارز حمزةُ شيبةَ، وبارز عليٌ الوليدَ بن عتبة .
فأما حمزة فلم يمهل شيبة حتى قتله، وأما عليٌّ فلم يمهل الوليدَ حتى قتله، واختلف عبيدةُ وعتبةُ بينهما بضربتين فأصاب كلُّ واحد منهما صاحبه، وكرَّ حمزةُ وعليٌّ بأسيافهما على عتبةَ فقضيا عليه، واحتملا صاحبهما .
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فحرضهم على القتال؛ وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابراً محتسباً مقبلاً غيرَ مدبر، إلا أدخله الله الجنة .
فلما دنا المشركون قال صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ فقال عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله؛ جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم! قال: بَخٍ بَخ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قول بَخٍ بَخْ ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها؛ فأخرج تمرات من كيس كان معه؛ فجعل يأكل منهن؛ ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر؛ وتقدّم نحو المشركين وهو يقول:
ركضاً إلى الله بغير زادِ
إلا التقى وعملُ المعادِ
والصبرُ في الله على الجهاد
وكلُّ زادٍ عرضةُ النفادِ
غيرَ التقى والبرِّ والرشادِ
ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من التراب فرمى بها وجوه المشركين؛ فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، وأمر أصحابه فقال: شدّوا؛ فكانت الهزيمة، وقُتِل مَن قُتل مِن صناديد قريش، وأُسر مَن أسر من أشرافهم؛ قال الله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكنَّ الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنَّ الله رمى).
وفي ذلك الموقف تجلت شجاعة الشجعان؛ حين بذلوا مهجتهم في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرةِ دينه؛ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في عريشه الذي أعدَّ له؛ قام أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا يهوي إليه أحدٌ من المشركين إلا أهوى إليه أبو بكر فقتله دون النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرحمن بن عوف: إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثةٍ أسنانُهما وهما: معاذُ بن عمرو بن الجموح؛ ومعاذُ بن عفراء، فتمنيت أن أكون بين أظلعَ منهما؛ فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم؛ وما حاجتك إليه؟ قال أُخبِرتُ أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منّا؛ فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس فقلت: هذا صاحبكم الذي تسألان عنه فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ فقال كلٌّ منهما: أنا قتلته؛ قال: هل مسحتُما سيفيكما؟ قالا: لا ؛ قال فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: كلاكما قتله؛ وقضى بسلبه لمعاذِ بن عمرو بن الجموح .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا يا رسول الله؛ فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد؛ قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته؛ فأخذت بلحيته؛ ووضعت رجلي على عنقه وقلت: أنت أبو جهل؟ هل أخزاك الله؟ فقال: وهل فوق رجل قتله قومه .
أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال: قلت لله ولرسوله؛ ثم احتززت رأسَه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله؛ هذا رأس عدوّ الله .
ولما دارت رحى المعركة أبصر بلالٌ أميةَ بنَ خلف وهو الذي كان يلي تعذيبَه بمكة؛ فقال: أمية بن خلف ؟! لا نجوت إن نجا؛ وخرج معه فريق من الأنصار؛ فطعنوه بسيوفهم حتى مات .
وفي هذه الغزوة العظيمة أيّد الله المؤمنين بالملائكة تقاتل معهم؛ جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهلَ بدر فيكم؟ قال: مِن أفضل المسلمين؛ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة .
وبينما رجل من المسلمين يشتد في أَثَرِ رجلٍ من المشركين أمامَه؛ إذ سمع ضربةً بالسوط فوقه وصوتَ الفارس يقول: أقدم حيزوم؛ إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه وشُقَّ وجهه كضربة السوط؛ واخضر ذلك أجمع؛ فجاء الأنصاري فحدَّث بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: صدقت؛ ذلك من مدد السماء الثالثة؛ فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين، قال الله تعالى: (إذ يوحي ربُّك إلى الملائكة أني معكم فثبِّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان).
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
فلما انتهت المعركة ونصر الله عز وجل أولياءه؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُطرح رؤوس الكفر في قليب بدر؛ فطُرحوا فيه؛ فلما ألقاهم في القليب وقف عليهم فقال: يا أهلَ القليب؛ يا عتبةَ بن ربيعة؛ ويا شيبةَ بن ربيعة؛ ويا أميةَ بن خلف ويا أبا جهل؛ فعدد من كان منهم في القليب؛ هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؛ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً؟ فقال المسلمون: يا رسول الله؛ أتنادى قوماً قد جُيِفوا؟ قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني .
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُلقَوا في القليب، وأُخِذ عتبة بن ربيعة، فسحب في القليب؛ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أبي حذيفةَ بنِ عتبة فإذا هو كئيب قد تغيَّر لونُه، فقال: يا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ فقال: لا والله يا رسولَ الله؛ ما شكَكَتُ في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيتُ ما أصابه وذكرتُ ما مات عليه من الكفر، بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيراً .
ومن تمام رحمة الله تعالى أن كان جملة من قتل من الكفار يوم بدر سبعين، مع حضور ألفٍ من الملائكة؛ وذلك لما كان من قدر الله السابق فيمن بقي منهم أن سيسلم منهم بشر كثير؛ ولو شاء الله لسلط عليهم مَلَكاً واحداً فأهلكهم عن آخرهم .
كما أنَّ من حكمة الله تعالى أن جعل قتل صناديد المشركين على يد الصحابة؛ حتى يُشفوا صدورَهم ممن كان يعذبهم أول ظهور الإسلام؛ فكان قتلهم بأيدي المؤمنين أبلغ من أن تأتي أحدَهم صاعقةٌ؛ أو يموت حتف أنفه؛ ولله في ذلك الحكمة البالغة؛ قال تعالى: (قاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم ويخْزهم وينصركم عليهم ويشْفِ صدور قومٍ مؤمنين* ويُذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللهُ على منْ يشاء..).
ومما عذَّب الله به قريشاً أنهم لما بلغهم خبرُ القتلى بَكَوا على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا؛ يبلغ محمدا وأصحابه فيشمَتوا بكم، وكان هذا من تمام ما عذب الله به أحياءهم في ذلك الوقت؛ وهو تركهم البكاء على قتلاهم، لأنَّ البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين .
وقد كانت غزوة بدر في يوم الجمعة السابع عشرَ من شهر رمضان، فنصر اللهُ بها الإسلامَ وأهله؛ وأذل الشركَ وأهلَه؛ وقد فتح الله بها على المؤمنين فتحاً مبيناً؛ وكتب لهم بها مجداً عظيماً يبقى على مرّ الأيام والدهور؛ لا يخبو نورُه؛ ولا تزول ذكراه.