عرض المادة

لزوم الصدق ومجانبة الكذب

9290 | الاربعاء AM 07:39
2014-02-19

لزوم الصدق ومجانبة الكذب

الحمد لله الذي قضى على كل مخلوق بالفناء، وتفرد بالعز والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الدجى.

أما بعد:

فإنّ من سعادة المرء اشتغاله بصلاح حاله وتصحيح سلوكه؛ ومن أعظم ما يعين على ذلك أن يتعاهد لسانه بما يصلحه؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن ملك لسانه؛ ووسعه بيته؛ وبكى على خطيئته»؛ ومن أهمّ ما يجب على العاقل فعله أنْ يداوم على رعاية لسانه بلزوم الصدق وما يعود عليه نفعه في الدارين، لأن اللسان يقتضي ما عوِّد؛ إن صدقاً فصدق وإن كان غير ذلك فهو على حسب ما عوّده عليه.

واللسان بوابةٌ يلج من خلالها المرء في تعامله مع الآخرين؛  فمن الناس من يُكْرَم للسانه، ومنهم مَن يهان بسببه؛ ولذا فالواجب على العاقل أنْ يتعاهد لسانه؛ ولا يكون ممن يشقى به .

وخير ما يحمل المرء لسانه عليه أن يعوِّده الصدق ومجانبة الكذب في الأقوال والأفعال؛ فإنَّ كل شيء يستعار ليُتَجمَّلَ به إلا اللسان فإنه ينضح بما اعتاده؛ لأنَّ الألسنة مغاريف القلوب؛ والصدق ينجي صاحبه والكذب يرديه .

وقد قيل:

عَوِّد لسانك قول الخَير تَحْظَ به

إن اللسان لما عَوَّدْتَ معتادُ

موكّلٌ بتقاضي ما سننتَ له

فاختر لنفسك وانظر كيف ترتادُ

والصدق من أعظم أبواب الخير التي تقود صاحبها إلى جنات الخلد؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة؛ وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا؛ وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار؛ وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» .

قال الفضيل بن عياض: ما من مُضْغْة أحبُّ إلى الله من لسان صدوق، وما من مضغة أبغض إلى الله من لسان كذوب .

ولما تميَّز به الصدق من الفضل وعلوّ المنزلة فقد أوصى به العقلاء؛ وحَثَّوا عليه؛ ومدحوا صاحبه؛ وما ذاك إلا لأنَّ الصدق عمود الدين، وركن الأدب، وأصل المروءة ولا تتم هذه الثلاثة إلا به .

قال عمر بن الخطاب: إن أبا بكر قام فينا عام أول فقال: إنه لم يقسم بين الناس شيء أفضل من المعافاة بعد اليقين، ألا إن الصدق والبرَّ في الجنة، ألا وإن الكذب والفجور في النار .

قال عمر: عليك بالصدق وإن قتلك، وقال المهلب بن أبي صفرة: ما السيف الصارم في يدِ الشجاعِ بأعزَّ له من الصدق .

وقال إسماعيل بن عبيد الله: لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه فقال لهم: يا بَنيَّ عليكم بتقوى الله؛ وعليكم بالقرآن فتعاهدوه، وعليكم بالصدق حتى لو قَـتَل أحدكم قتيلاً ثم سئل عنه أقرَّ به، واللهِ ما كذبْتُ كذبة قط مُذْ قرأت القرآن .

ولما خرج الشعبي مع ابن الأشعث على الحجاج، فانتصر الحجاج على ابن الأشعث، استشار الشعبيُّ أصحابَه فأشاروا عليه بالاعتذار، قال الشعبي: فلما دخلْتُ خالفت مشورَتَهم، ورأيتَ واللهِ غير الذي قالوا، فسلَّمْتُ عليه بالإمرة ثم قلت: أيد الله الأمير، إنَّ الناس قد أمروني أنْ أعتذر بعير ما يعلم الله أنه الحق. ولكَ الله أنْ لا أقول في مقامي هذا إلا الحق: قد جهدنا وحَرَصْنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك اللهُ علينا؛ وأظفرك بنا، فإنْ سطوت علينا فبذنوبنا، وإنْ عفوت فبحلمك والحجةُ لك علينا.

فقال الحجاج: أنت واللهِ أحبُّ إلينا قولاً ممن يدخل علينا وسيفُه يقطر من دمائنا ويقول: واللهِ ما فعلت ولا شهِدْت، أنت آمنٌ يا شعبي.

فقلتُ: أيها الأمير؛ اكتحلت واللهِ بعدَك السَّهر، واستحلسْتُ الخوف، وقطعْتُ صالحَ الإخوان، ولم أجد أحداً من الأمير خلفاً.

قال: صدقت. وانصرفت .

ومن لزم الصدق وعود لسانه عليه وُفِّق؛ فلا يكاد ينطق بشيءٍ يظنه إلا جاء على ظنه، وأحسن الكلام ما صدق فيه قائله وانتفع به سامعه؛ كما أنّ الله تعالى يرزق صاحبه من الصفات ما يتميّز به بين الناس مَن عرف منهم ومَن لم يعرف؛ قال يوسف بن إسباط: للصادق ثلاث خصال؛ الحلاوة، والملاحة، والمهابة ؛ فالصادق يرزقه الله مهابة وجلالة فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة ومقتا فمن رآه مقته واحتقره .

والصدق يرفع المرء في الدارين، ولو لم يكن في الصدق خصلة تحمد إلا أنَّ المرء إذا عُرِف به قُبِل كذبه، وصار صدقاً عند من يسمعه؛ لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في تدريب لسانه حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب.

قيل لسيار: تروي عن مثل خالد القسري؟ فقال: إنه أشرف من أن يكذب.

وينبغي على الوالد أن يربي ولده على الصدق من حين الصغر؛ فإنهم إذا نشأوا على ذلك صار لهم عادة ملازمة؛ وصفة دائمة؛ وقد كان عبد الملك بن مروان يقول لمؤدب ولده: عَلِّم بَنيَّ الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب، وإنْ كان فيه كذا وكذا؛ يعني القتل .

وقد كانت العرب تفخر بالصدق ومجانبة الكذب حتى في أيام جاهليتهم وشركهم؛ حتى قال أبو سفيان- وقد كان مشركاً-: كنت امرءاً سيداً أترفع عن الكذب؛ فلما جاء الإسلام ازدادوا به تمسكاً وفخراً .

جاء عن بلال رضي الله عنه أنه خطب لأخيه امرأة قرشية، فقال لأهلها: نحن مَن قد عرفتم كُنّا عبدَيْن فأعتقنا الله تعالى، وكنا ضالَّيْن فهدانا الله تعالى، وكنا فقيرَيْن فأغنانا الله تعالى، وأنا أخطِب منكم فلانةً لأخي، فإن تزوجوه فالحمد لله، وإن تردونا فالله أكبر .

فأقبل بعضهم على بعض؛ فقالوا: بلال ممن عرفتم سابقته ومشاهِدَه ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوِّجوا أخاه، فزوَّجوه، فلما انصرفوا قال له أخوه: يغفر الله لك أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهِدَنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا ذلك، فقال: مه يا أخي صدقْتَ فزوَّجك الصدق .

 وامتدح ابنُ ميادة جعفرَ بنَ سليمان، فأمر له بمائةِ ناقة، فقبَّل يده وقال: والله ما قبَّلْتُ يدَ قُرشيٍّ غيرك إلا واحداً، فقال: أهو المنصور؟ قال: لا والله، قال: فمن هو؟ قال: الوليد بن يزيد .

فغضب وقال: واللهِ ما قبلتَها لله تعالى، فقال: واللهِ ولا يدُك ما قبلتُها للهِ تعالى، ولكن قبلتُها لنفسي، فقال: واللهِ لا ضرَّك الصدقُ عندي؛ أعطوه مائة أخرى .

وقد تورع السلف رحمهم الله عن الكذب حتى فيما تهاون الناس فيه بدعوى مسايرة الآخرين؛ قال المنصور لهشام بن عروة: يا أبا المنذر، تذكرُ يوم دخلت عليك أنا وإخوتي مع أبي، وأنت تشرب سويقاً بقصبةِ يراع؟ فلما خرجنا، قال أبونا: اعرفوا لهذا الشيخ حقه، فإنه لا يزال في قومكم بقيةٌ ما بقي .

قال: لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين؛ فلما ذهب المنصور لاموا هشاماً؛ لأنه لم يسايره في حديثه؛ فقال: لم يعودني الله في الصدق إلا خيراً .

 الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فكما يجب على المسلم لزوم الصدق فيجب عليه كذلك مجانبة الكذب؛ عامداً كان أو مازحاً؛ فالكلام أكثر من أن يكذب فيه عاقل؛ ومن أكثر الكذب لم يترك لنفسه شيئاً يُصَدَّق به؛ وإنما يكذب الكاذب من مهانة نفسه؛ ولو لم يكن للكذب من الذمّ إلا إنزاله صاحبه بحيث إنه إنْ صَدَق لم يُصدَّق، لكان الواجب على العاقل أن يتجنبه ويلزم التثبت بالصدق الدائم .

كذبْتَ ومن يكذب فإنَّ جزاءه

إذا ما أتى بالصدقِ أن لا يُصَدَّقا

إذا عُرِف الكذابُ بالكِذْبِ لم يزل

لدى الناس كذاباً وإن كان صادقا

ومن آفةِ الكذاب نسيانُ كذبِه

وتَلقاهُ ذا فَقْهٍ إذا كان حاذِقا

والكذب يهوي بصاحبه في الدنيا والآخرة؛ فلا يترك له قيمةً ولا أثراً؛ ومن أجل ذلك قالت الحكماء: الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب؛ فلا شيءَ أشدَّ وأشنعَ من الكذب؛ حيث يضع صاحبه ويحقِّره بحيث لا يرتفع بعد ذلك؛ كما قيل:

كم من حسيبٍ كريمٍ كان ذا شرف

قد شانه الكِذْبُ وسط الحيّ إن عمدا

وآخرٍ كان صُعْلوكاً فشَرّفه

صدقُ الحديث وقولٌ جانب الفَنَدَا

فصار هذا شريفاً فوق صاحبه

وصار هذا وضيعاً تحته أبدا

والكذب له تأثير عظيم في سواد الوجه ويكسوه برقعاً من المقت يراه كل صادق؛ فتظهر سيما الكاذب في وجهه بينة يراها من له عينان؛ فالواجب على العاقل أن يتنزه عنه حفاظاً على دينه أن يُجرح؛ وعلى مروءته أن تُقدح .

ومن تمام عقل المرء تجنبه الخوض فيما لا يَعلم؛ حتى لا يُتَّهم فيما يعلم؛ ولا يجب على المرء إذا سمع شيئاً يعيبه أن يحدِّث به؛ لأن من حَدَّث عن كلِّ شيءٍ؛ أزْرَى برأيه وأفسَد صِدْقَه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»؛ وقال عبد الله بن مسعود:حَسْبُ المؤمن من الكذب أن يحدث بكل ما سمع.

فالواجب على المسلم أن يحتاط لدينه؛ وأن يبتعد عما شأنه أن يزري بدينه ويحط من قدره؛ ولا شيء يبلغ به هذا المبلغ من نسبته إلى الكذب؛ لأن الكذبَ رأسُ الذنوب؛ وهو يبدي الفضائح ويكتم المحاسن .

هذا وإنَّ من أنواع الكذبِ تعمدُ الكذبِ بدعوى المزاح؛ وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشدّ تحذير فقال:«ويل للذي يحدث بالحديث ليُضحك به القوم فيكذب ويلٌ له ويلٌ له»؛ وقال عمر بن الخطاب: لا يجد عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يَدعَ المراء وهو مُحِقّ، ويدع الكذب في المزاح وهو يرى أنه لو شاء لغلب.

فالواجب على المسلم أن يلزم الصدق في أقواله وأعماله؛ وأن يجتنب الكذب في جميع أحواله؛ ويحفظ لسانه عن جميع ما يُضعف دينه؛ فإنَّ في ذلك النجاة؛ قال عبد الله بن عمرو: لا تنطق فيما لا يعنيك، واخْزُنْ لسانك كما تخزن دراهمك .

 

Powered by: GateGold

جميع الحقوق محفوظة لموقع الموقع الرسمي للدكتور سالم العجمي