عرض المادة
الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
2009-10-30
الأدب مع النبي r
الحمد لله الذي من علينا بالنبي الكريم، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، واستنقذنا به من الضلال والعذاب الأليم .
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العظيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قال الله فيه:( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم )، صل الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم في هديهم القويم .
أما بعد أيها المسلمون :
فقد كانت الأرض قبل بعثة النبيr خليطاً من الشرك والجهل, وحياةً مليئةً بالخوف والرعب, يتعامل الناس كوحوش الغاب التي تبحث عن فريسة فإذا رأتها انقضت عليها دون رحمةٍ أو رأفة .
وقد خيّم الجهل بين فئات ذلك المجتمع وضرب بينهم بأطنابه, فباتوا يتخبَّطون في ظلمات الشرك؛ ويتساقطون في الهوة تلو الهوة, يتلمّسون سبيل النجاة ولكن لا نجاة .
فلما أن أراد الله بهم خيراً بعث نبيَّه محمداً r بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً, فكان مبعثه رحمة للعالمين؛ فأشرقت الأرض بعد إظلامها؛ ولبست ثوب الأنس والسرور, وصار مَن اتبعه آنس الناس قلباً وأشرحهم صدراً, وأسعدهم عيشاً؛ قال الله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .
وقد كان r ناصحاً لأمته؛ رحيماً بهم؛ حريصاً على تعليمهم ما ينفعهم, شفيقاً عليهم, ما ترك طريق خير إلا دلّهم عليه ولا طريق شر إلا حذرهم منه .
هذا وإن حقوقَ النبي r على أمته كثيرةٌ لا يكاد يحصيها عادٌ, ولا يستطيع وصفَها واصف, ولكنْ حسبُنا أن نشير إلى ذلك إشارات تدل على ما بعدها؛ ونذكر أهمَّ ما يجب أن يُتَّصف به من الأدب نحو النبيr .
فمن أعظم الآداب التي يجب أن يتصف بها المسلم نحو نبيِّه الكريمr أن يستشعر محبته, لأن محبة النبيr أصلٌ عظيمٌ من أصول الدين, ولا إيمان لمن لم يكن النبيr أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين؛ قالr : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين » .
وقد قال عمرt: يا رسول الله, لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا نفسي. فقالr : « لا والذي نفسي بيده؛ حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك؛ فقال عمر: فإنه الآن واللهِ لأنت أحبّ إليَّ من نفسي, فقال النبيr: الآن يا عمر» أي: الآن عرفتَ فنطقت بما يجب .
من أجل ذلك فقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في محبة النبيr لِما رأوه من عظيم نعمة الله عليهم بأن بعثه لهم ومَن بعدهم رحمةً ورأفة .
فقد سئل عليt: كيف كان حبكم لرسول الله r ؟ فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا, ومن الماء البارد على الظمأ .
و لما أسَر مشركو مكة زيَد بن الدَّثِنة t عمدوا إلى قتله؛ فأخرجوه خارج الحرم فسأله أبو سفيان- و كان يومئذٍ مشركاً - : أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تُضرَب عنقُه وإنك في أهلك؟ .
فقال: والله ما أحب أن محمداً r الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي؛ فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً .
وهكذا كان حالُ التابعين رحمهم الله, من عظيم محبتهم وشوقهم إلى النبيr. كان الحسن البصري رحمه الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه على النبي r حيث كان النبيr يتخذه منبراً وأراد التحول عنه فبكى الجذع, فيقول الحسن: يا معشر المسلمين, الخشبة تحن إلى رسول اللهr شوقاً إلى لقائه, فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه .
وسئل مالك عن الإمام أيوب السختياني فقال: كان إذا ذكر النبيr بكى حتى أرحمه, فلما رأيت منه ما رأيت, وإجلاله للنبيr كتبت عنه .
وجاء عن عامر بن عبد الله بن الزبير: أنه إذا ذُكر عنده النبيr بكى حتى لا يبقى في عينه دموع .
و من الأدب مع النبيr تصديقه فيما أخبر به, قال ابن القيم رحمه الله: فرأس الأدب مع الرسولr كمالُ التسليمِ له والانقيادِ لأمره وتلقي خبرِه بالقبول والتصديق .
وهذا من أصول الإيمان وركائزه الدينية, والكفرُ اتهامه وتكذيبه فيما أخبر, قال تعالى: ( والنجم إذا هوى* ما ضل صاحبكم وما غوى* وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى ) .
كما أن من الأدب مع النبيr طاعته فيما أمر به, وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسولr في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) .
و من الأدب مع النبيr التأدب عند ذكره, فلا يُذكَر اسمه مجرداً بل يُقرَن بالصلاة والسلام عليه؛ سواء كان لفظاً أو كتابة,قال r: « رغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ », وقالr : «البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ » ؛ وفي هذا إطلاق صفة الذم والدعاء على من لم يصلِّ على النبيr حين يذكر, ومِن هنا ندرك الخطأ الذي يفعله بعض الكتاب حين يذكر اسم النبيr فيكتب بعده (ص) أو (صلعم)؛ وهو قَصَد بذلك اختصارَ لفظ الصلاة والسلام على النبي r؛ فإن مثل هذا الفعل يُعدُّ نوعاً من الجفاء . كما أن ترك الصلاة عليه على ما ورد فيها من الذم, فإن تاركها كذلك قد فاته الأجر المترتب على ذكرها, والذي دل عليه قول النبيr: « من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً » .
و من الأدب مع النبيr توقير سنَّتِه وما جاء عنه من السنن والأخبار, وأعظمُ دلائل ذلك التحاكم إلى سنتهr فإن ذلك من أصول الاتباع, ولا إيمان لمن لم يتحاكم إلى سنة النبيr وأعرض عن هديه, قال الله تعالى: ( فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) .
قال ابن القيم رحمه الله: « فكل من خرج عن سنة رسول اللهr وشريعته؛ فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول اللهr في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا, وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه » .
ومن دلائل توقيرهr توقير سنته حين التحدث بها, وقد ضرب السلفُ في ذلك أجمل الأمثلة وأروعها فيما جاء عنهم من تعظيم سنة النبيr وتوقيرِ حديثه, قال عمرو بن ميمون: اختلفت إلى ابن مسعود سنة, فما سمعته يقول: قال رسول اللهr إلا أنه حدّث يوماً فجرى على لسانه: قال رسول اللهr؛ فنظرت إليه وقد حل إزاره وانتفخت أوداجه, واغرورقت عيناه, فقال: أو نحو ذلك؛ أو دون؛ أو قريباً من ذلك .
وقال أبو الزناد: كان سعيد بن المسيب وهو مريض يقول: أقعدوني؛ فإني أُعْظِم أن أحدث حديث رسول اللهr وأنا مضطجع .
وقال أبو سلمة الخزاعي: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج يحدِّث, توضأ وضوءه للصلاة, ولبس أحسن ثيابه, ومشط لحيته, فقيل له في ذلك, فقال: أوقّر به حديث رسول اللهr .
و كان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك, فإذا جاء الحديث خشع .
فأين هذه السيرة العطرة من أناس قل توقير السنة في قلوبهم؛ فمنهم من يلغو ويرفع صوته إذا ذكر الحديث, ومنهم من يرد ما فيه لشبهٍ عقلية؛ ومنهم من يرد الحديث لمخالفته العقل أو لعدم تمشيه مع الواقع؛ أو أنه يكثر التأويل وعسف الأحاديث حتى توافق ما نشأ عليه من الأفكار أو الاتجاهات .
فالواجب على المسلم تعظيم السنة, وتقديمها على كل قول مهما كان صاحبه, لأن المسلم مأمور باتباع النبيr لا اتباع غيره من الناس,قال الشافعي رحمه الله: « أجمع العلماء على أن من استبانت له سنةٌ عن رسول اللهr لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان » .
وقال الحميدي : كنا عند الشافعي؛ فأتاه رجل فسأله في مسألة؟ فقال: قضى فيها رسول الله كذا وكذا, فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطى زنّاراً ؟ أقول لك: قضى فيها رسول الله r ؛ وأنت تقول: ما تقول أنت؟ .
قال ابن القيم رحمه الله: « ومن الأدب معه أنْ لا يُستَشْكل قوله؛ بل تستشكل الآراء لقوله, ولا يُعارض نصُّه بقياس, بل تُهدر الأقيسة وتُلقى لنصوصه, ولا يحرَّف كلامُه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً..., ولا يوقف ما جاء به على موافقة أحد؛ فكان هذا من قلة الأدب معهr بل هو عين الجرأة».
ومن تمام الأدب معه عبادَ الله؛ الحرصُ على نشر سنته وتعليمِها وتبليغها, فإن هذا بابٌ عظيم من أبواب البِر؛ ودليلٌ على محبة النبيr؛ لما فيه من السعي في إعلاء سنته, ونشرِ هديه بين الناس, وقد دعا النبيr لمن سمع حديثه فبلَّغَه غيرَه فقال: « نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع » , قال سفيان بن عيينه: لا تجد أحداً من أهل الحديث إلا في وجهه نَضْرَة لدعوة النبيr, وقال الشافعي: إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلاً من أصحاب النبيr, جزاهم الله خيرا ًحفظوا, فلهم علينا الفضل لأنهم حفظوا لنا .
فنشر السنة نشر للدين, وبقدر ما يقوم من السنن بقدر ما يموت من البدع حتى يبقى الناس على الهدي الأول لا تشوب ديِنَهم شائبة ولا يناله تبديلٌ أو تغيير .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المقتفين لآثار نبيِّهr؛ الداعين إليها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى والعلم واليقين، وأيده بالأدلة القواطع والبراهين، وجعله هدى ورحمة للعالمين .
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمامُ المتقين؛ صل الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد عباد الله:
فإن من أعظم الآداب مع النبيr الذب عنه وعن سنته, فإن هذا دليل على قوة الإيمان, وهو من أعظم الجهاد؛ وعلامة على صدق المحبة والإجلال لهr, فلا بُدَّ للمسلم القادر العالم بالسنة أن يتصدى لحملات المغرضين والمنافقين الذين يبثّون سمومهم ليل نهار؛ يريدون أن يحرِفوا المسلمين عن عقيدتهم وتمسكهم, ولعلَّ من جاهد هؤلاء وقام بدحض شبههم أن يشمله الله عز وجل بالرحمة وأن يحفظ عليه دينه في أزمان الفتن .
تأملْ يا عبد الله: كان النبي r يسير على راحلته, فكاد أن يسقط منها ثلاث مرات بسبب النوم؛ وكان أبو قتادة يدعَمُه حتى لا يسقط, فقال له: « حفظك الله بما حفظت نبيّه » .
وحفظ سنة النبيr والذب عنها بعد موته كالذب عنهr في حياته, فمن أراد الله به خيراً وفقه لهذا الفضل وخصه به .
وقد ضرب الصحابةُ y أعظمَ الأساطير في ذبهم عن النبيr؛ فلله درهم ما أعظمهم؛ قال قيس بن حازم: رأيت يدَ طلحة شلّاء, وقى بها النبيَّr يوم أحد .
فما أجدر بالمسلم أن يذب عن نبيِّه r وعن سنته فإن ذلك هو الشرف؛ ويدخل في الذب عنهr الذبُّ عن زوجاته أمهاتِ المؤمنين, لأنهن فراشه وعفَّتُه, والوقيعة في زوجات النبيr واتهامهن بالباطل من أعظم الإيذاء لهr, لاسيما منَ طعن عائشة بالفاحشة والإفك فإنه كافر بالله العظيم, لأنه طعنها فيما برأها الله منه, كما أن هذا طعنٌ في عرضِ النبيr, قال الإمام مالك: من سبَّ عائشة قتل, قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن .
عباد الله :
إن من أعظم أسباب السعادة للمسلم اهتمامه بهذا الباب العظيم الذي يتحدث عن الأدب مع النبيr لأنه من أعظم أبواب الخير؛ والموفق من وفقه الله إلى الأخذ به وتتبع أسبابه ودواعيه .
جعلنا الله وإياكم من الداعين إلى السنة الغراء؛ السائرين على المحجة البيضاء؛ ونسأل الله أن يوفقنا لاتباع نبيهr؛ وأن يجنبنا البدع والفتن والأهواء .
20شوال1430هـ ؛ الموافق9/10/2009م .