عرض المادة

تسلية أهل المصائب

14136 | الجمعة AM 03:41
2009-10-30

تسلية أهل المصائب

الحمد لله الذي أوجد الكون من عدم و دبره, وخلق الإنسان من نطفةٍ فقدَّره, ثم السبيل يسَّره, ثم أماته فأقبره, ثم إذا شاء أنشره؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره .

أما بعد أيها المسلمون:

فاعلموا أن هذه الدنيا دارُ ابتلاء وكرب, لا يُرجى منها راحةٌ مهما طال العمر, و مهما اجتمع للإنسان فيها من أسباب الراحة والغنى .

ولو أن الإنسان عرف قدر الدنيا وما طبعت عليه من الكدر والأنكاد والمصائب والأحزان, وعرف أن ما فيها خداعٌ و سرابٌ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً, لهانت عليه المصائب وخفَّ وقعها؛ لأن هذا هو حال الدنيا.

طبعت على كدرٍ وأنت تريدها

صفواً من الأحزان والأكـــــدارِ؟

فنسأل الله عزَّ وجل أنْ لا يبتلينا ببلاءٍ يعجَز عنه صبرُنا؛ وأن يرحم ضعفنَا وإخوانَنا المسلمين .

لقد علم الجميع بذلك المصاب الجلل الذي حلَّ ببعض إخواننا؛ من حصولِ ذلك الحادثِ والمصيبةِ الدهياء باحتراق أحد الأعراس في مدينتنا؛ والتي ذهب على إثرها عشرات الضحايا؛ وأصيب أضعافُ ذلك من نساء بريئات داهمتهن النارُ في وقت لم يكن أحدٌ منهن يتصور أن ذلك سيحدث, ولكنها مشيئةُ الله عزَّ وجل, لا راد لحكمه ولا معطل لقضائه .

فنسأل الله تعالى أن يرحم من مات منهن في تلك النار المحرقة؛ وأن يرفع درجاتِهن في الجنة, وأنْ لا يجمع عليهن نارَ الدنيا ونار الآخرة وأن يتقبلهن شهيدات .

و نسأل الله تعالى أن يشفي من أصيب من جراء ذلك؛ وأن يلبسهن لباس التقوى والعافية .

سبحان الله!

لقد خرج هؤلاء النسوةُ إلى ذلك الحفل, ما دار في خلدهِن أن يحدثَ ما حدث, ولكنه الأجل : ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ) .

وما أجمل بالمسلم أن يعتبر بما حولَه من الأحداث ؛ويعلمَ أنَّ لله في ذلك الحكمة البالغة .

فإنَّ المرءَ لو تأمل هذه المصيبة بما يظهر من عظيم مصابها لرأى أمراً مهولاً, ولكنه إذا تأمَّل حكمة الله عزّ وجل علم أن الله تعالى لا يقدِّر شرّاً محضاً ولا شك .

فلا ندري!

فقد تكون وفاةُ هذه المرأةِ في تلك النار دليل رحمةٍ من الله عزّ وجل لها؛ ومِن أجل أن يشملها قول النبي صلى الله عليه وسلم:« الحريق شهيد » .

نسأل الله لهن ذلك .

وما يدري المرء لعل الله عز وجل حجب عن هؤلاء النسوة شيئاً عظيماً من الفتن, إما فتنةٌ خاصة أو فتنة عامةٌ تحيقُ بالناس؛ فإن الغيب أمرٌ لا يعلمه إلا الله عز وجل .

هذا وإن الواجب على من أصيب بمصيبة أن يعالجها بأعظم علاج وأنجحِه وهو الصبر؛ قال تعالى:( وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .

وإنَّ مما يسلي عن المصيبة ويهوِّنها؛ ويجلبُ الصبرَ بإذن الله أن يعلم أن تشديد البلاءِ يخص الأخيار, ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل, يبتلى الناس على قدر دينهم فمن وُجِد في دينه صلابة زيد في بلائه, ومَن وُجِد في دينه رقة خفف عنه » .

ومما يعالج به المرءُ المصائب الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره, والاستعانة بالله عز وجل فيما أصابه من المصائب بدعائه والتضرع إليه بأن يثبت قلبه وأن يقويَّ يقينه, لأن قُوّةَ الإيمان بالله وقضائه وقدره تثمر الطمأنينة بما قضى الله عز و جل .

ومما يخفِّف عن المُصاب أن يعلم أن المصيبة ثابتة لا قدرة له بتغييرها, وأن يقدِّر وجودَ ما هو أكثر منها.

ومما يسلي المرءَ ويهوِّن عليه أن ينظر في حال من ابتُلِيَ بمثل بلائه؛ فإن التأسي بالآخرين راحةٌ عظيمة تخفف الحزن؛ ولذلك قيل:

       ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعةً

       ولكـــــنْ متــى ناديــت جاوبنــي مثلـــي

وعلى المسلم أن يعلم أن مما يخفف مصيبتَه أن يتفكر ويعتَبر فيمن هو أعظمُ مصيبةً منه, قال صلى الله عليه وسلم: « انظروا إلى من هو أسفل منكم, ولا تنظروا إلى من هَو فوقكم, فهو أجدرُ أن لا تزدروا نعمة الله عليكم » .

وعلى المسلم أن يرجوَ من الله الخَلَف فيما فقده من أمٍّ حنون, أو زوجة مصون, أو أبناء بررة, أو قريب شفيق, أو طفلٍ كان مؤنساً لوحشته .

فالحمد لله على ما قضى وقدر, وأعظم أجر إخوانِنا المصابين وجبر مصابَهم .

ومن واقع هذا الحادث الأليم؛ أن بعض أخواتنا قد أُصِبْن بحروقٍ متفرقة في أجسادهن, فالصبر الصبر أيتها المبتلاة؛ ولا تدرين لعلك مع عظم هذا المصاب إن كتب الله لك النجاة, أن يعوضك إيماناً صادقاً؛ ويقيناً عظيماً, ورزقاً لم يكن يحلم به كثيرٌ من الناجين, فالأمر عند الله, ومفاتيح القلوب والأرزاق بيد الله .

اللهم فاجبر مصابهن، وألبسهن لباس التقوى والعافية .

ويا عباد الله:

اعلموا أن السعيد من اتعظ بغيره؛ والشقي من اتعظ بنفسه؛ فخذوا من هذه الحادثة ومثيلاتها عبراً وعظات .

إن هذه الحفلات لطالما حذر النصوحون من الاجتماع إليها بغير ضوابط .

إن تلك الملابس التي حذرْنا منها؛ ومواد التجميل التي تضعها النساء في تلك الحفلات هي من أعظم أسباب الحريق, ومما ساعد على سرعة اشتعال النار في أجسادهن رحمهن الله .

ولا نعني بذلك أن الحاضرات كن يلبسن الملابس الفاجرة .

حاشا لله .

فالمرأة يجوز لها أن تلبس أمام النساء ما شاءت بضوابط شرعية تعرفها ويعرفها كل مسلم مؤمن بربه .

على أن هذا العرس- ومن باب الإنصاف لأخواتنا المتوفيات والمصابات- كان حفلاً محتشماً محافظاً, وليس كما كتب بعض السفهاء في بعض الصحف, أن الحريق قد حدث والنساء يرقصن على أنغام الموسيقى الصاخبة .

فهذا من الظلم والافتراء .

والمقصود يا عباد الله؛ تحذير نسائنا وأطفالنا من التزاحم في مثل هذه الحفلات, لأن من الغرائب أن بعض النساء تذهب لبعض الحفلات لمجرد النظر؛ ودون سابق معرفة بأهل الزواج؛ فما الداعي لمثل ذلك؟!

كما أن هذه المصيبة تدعو إلى إعادة النظر في نوعية ما تلبسه المرأة من الملابس التي تُدفع عليها أعظم الأموال, وقد جعلها المصممون سبيلاً لابتزاز أموال الناس؛ فحري بالمرأة إن حضرت حفلاً « محتشماً محترماً » أن تلبس ما يسترها أمام الناس مما لا يُظهرها أمامهم على غير هيئتها التي اعتادوها من الحشمة والوقار .

وفي مثل هذه الوقائع يتأمل المرء في حال من ذهبت نفسه في مثل هذا الحادث الدامي؛ فإن كان على صلاح حال فليحمد الله أنْ كان فقيده مصلياً صائماً طائعاً لربه, وإن كان مسرفاً على نفسه بالذنوب والمعاصي فليأخذ المرء من ذلك عبرة وعظةً؛ ويجتهد على إصلاح حاله وشؤونه؛ مشى الحسن البصري  -رحمه الله- في جنازة, وبجانبه شابٌ فقال له: أرأيت صاحب هذا النعش لو عاد إلى الدنيا هل يعود إلى معصية, قال : لا, قال: فكن أنت .

فجميل أن يعتبر المرء بأحوال من ذهب, وليست المسألة أن يبكي لسويعات أو أيام ثم يعود إلى إسرافه وتعديه لحدود الله .

فالباكي يبكي على نفسه ..

الباكي يبكي على نفسه يا عباد الله ..

ومن جميل ما يسمعه المرء ويرجو لأهله خيراً, بالرغم مما يصيبه من عظيم الحزن والألم؛ أن إحدى المتوفيات -وقد كانت لا تريد حضور ذلكم الحفل- لمّا ألحَّ عليها والدتها وأخواتها بالذهاب معهم؛ قالت: إذن انتظروا حتى أصلي العشاء؛ فقالوا: نصلي هناك فكانت ممن مات في الحفل رحمها الله وغفر لها .

ماتت وقلبها في الصلاة, ليس كمن مات وهو ينوي الشرَّ ويخطط له . وإحداهن لعظيم رحمتها لما اشتعلت النار رمت بابنتها إلى خارج المكان, وماتت هي, فما أعظم تلك الرحمة !.

ومع ذلك فإن الله أرحم بعباده من هذه بولدها؛ فنسأله تعالى أن يرحم من مات في هذا الحادث وإياي والسامعين .

تأملوا يا عباد الله :

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ فإذا امرأة من السبي تسعى, إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟. قلنا لا والله . فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها » .

اللهم فاجعل لنا وللضحايا والمصابات من رحمتك النصيب الأوفر.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .

 

 

الخطبة الثـانية

الحمد لله وحده, و الصلاة والسلام على رسوله وعبده؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه .

أما بعد :

ففي مثل هذه المصائب تتجلى معادنُ الرجال, ويظهر جميل الفعال؛ وقد استبان ذلك جلياً في تصرف كثير من شبابنا الشهم الذين سارعوا بإنقاذ أخواتهم معرضين أنفسهم للخطر, سواء باختراقهم النار لإنقاذ المصابات, أو بحملهم المصابات على سياراتهم الخاصة, وقد ابلوا بلاء حسناً- غفر الله لهم وسترهم ولا كشف لهم عورة- ولكن الخرق أوسع من يُرقَع .

كما أنهم ضربوا أروع الأمثلة في الغَيْرة حين عمد جمع منهم إلى خلع ثيابه لستر مَن نجت من الحريق, فبتَّ ترى بعضَهم فقط بالفانلة والسراويل .

وسَتْرُهم لمن نجت من الحريق دليل على الفقة, فليس معنى كون المرأة خرجت بهذا اللباس أنها فاجرة, فمن الطبيعي أن تلبس المرأة في الحفلات بين النساء ما تلبسه النساء فيما بينهن عادة؛ ولكن الخطر قد اضطرها إلى الخروج على هذه الحال, فجزاهم الله خير الجزاء .

وقد أَبْدَوا بسالة ليس لها نظير حين كان كثيرٌ منهم يقف في مكان بعيد عن المستشفى نظراً لشدة الزحام؛ فيحمل المصابة حتى يصل بها إلى الطبيب, فهذا عملٌ يشكرون عليه .

وقد قلنا ذلك من باب الإنصاف لشبابنا, حتى لا يأتي من يغلظ لهم بالقول ويقول: إنهم ما أتوا إلا مِن أجل فضول النظر؛ ويسئ بهم الظن بالرغم مما فعلوه من جهد عظيم لا يكافئهم عليه إلا الله عز وجل .

ولا نملك إلا أن ندعوَ الله لهم أن يثبت قلوبهم, ويجعلَ ذلك سبباً لهدايتهم إليه سبحانه وتعالى .

وقد قام بعض إخواننا - غفر الله لهم- بتغطية بعض النساء المصابات إصابة بليغة بداعي الستر, فمع الحريق الذي تعاني منه غُطِّيت بهذا الغطاء الذي يزيد حرارة جسمها, وكان اللائق أن يُؤمَر الناس بالابتعاد وغض البصر, وأنْ لا تُزاد المصابة بالحروق بما يزيد من آلامها .

وهنا نعتب على بعض إخواننا- غفر الله لهم وهداهم- الذين هَبُّوا إلى المستشفى دون حاجة, فتسببوا بمزاحمة المسعفين, وأغلقوا الممرات, وصعَّبوا من مهمة الإسعاف، وبعضهم كان ذهابه لحسن نية؛ يقول: ربما أساعد في شيء .

وهذا خطأ؛ لأنَّ فيه أضراراً بالمرضى لصعوبة وصولهم للمسعفين؛ كما فيه إطلاع على عورات الناس دونما حاجة .

فالمساعدة تكون في أرض الحدث كما فعل أولئك الشباب الشهم الذين خاطروا بحياتهم؛ وليس بعد وصول المصابين إلى مكان العلاج .

و من باب رد المعروف لأهله عباد الله؛ فقد أبلى المسعفون من أطباء وممرضين على وجه الخصوص بلاءً عظيماً, ولكن المصيبة أعظم .

هذا وإنَّ من دلائل الرحمة ما رؤي من الناس في أروقة المستشفى ومكان الحادث؛ وقد فاضت أعينهم بالدموع دون معرفة بالمصابات؛ ولكنها الرحمة التي جعلها الله في قلوب من شاء من عباده, وانعكاس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » .

وهذا دليلُ خير لمن رزقه الله هذه السمة البارزة؛ فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على موت ابن له وقال: « إنما يرحم الله من عباده الرحماء » .

فالبكاء دليل الرحمة؛ وقد رأينا من يبكي فقيدَه, فينكر عليه بعض الناس فيقولون له: اصبر؛ وهذا خطأ ؛ فالبكاء يريح النفس ويخفف الحزن وينفِّس عن الصدر مع لزوم الصبر، وإنما المنهي عنه هو النياحة بالصراخ والعويل وشق الجيوب وتعديد محاسن الميت، أما إذا بكى الإنسان مع لزومه الصبر, ولم يقل ما يُغضب الرب سبحانه وتعالى فلا ينكر عليه؛ فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وقال: « إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .

وما أكثر  العبر في مثل هذه الأحداث .

اللهم اغفر لأخواتنا اللاتي قضين في هذا الحريق؛ اللهم ولا تجمع عليهن نارين.

اللهم آجر المصابات في هذا الحريق على مصابهن؛ وارزقهن الصبر؛ وألبسهن لباس التقوى والعافية .

اللهم اغفر لنا وارحمنا؛ وعافنا واعف عنا؛ وتوفنا وأنت راضٍ عنا .

 

* خطبة الجمعة 1رمضان1430هـ؛ الموافق21/8/2009م .

 أُلقيت على إثر حريق حدث في مدينة الجهراء في الكويت .

Powered by: GateGold

جميع الحقوق محفوظة لموقع الموقع الرسمي للدكتور سالم العجمي