عرض المادة
فضل التوحيد
2009-09-26
فضل التوحيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الله ـ خلق الخلقَ لغايةٍ عظيمة، وألزمهم بفريضةٍ لا يسعهم الخروجُ عنها؛ ولا يصح عملهم إلا بها، وهي توحيدُه وإفرادُه بالعبادة .
فتعالى الله أن يخلق عبادَه عبثاً، أو أن يتركهم سدىً، بل خلقهم لحكمةٍ عظيمةٍ؛ خلقَهم وهو غني عنهم، لا ليستكثر بهم من قلة ولا ليتقوى بهم من ضعف، قال تعالى :( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) .
وهذا أمرٌ لكل الخلق أن يعبدوه سبحانه؛ ويفردوه بأنواع العبادات وحده دون ما سواه، لأنه خلقهم من أجل أن يعبدوه، فإذا كان هو الذي خلقهم وصرفوا العبادة لأحدٍ غيرِه، فقد عبدوه من دون الله، وهذا من الظلم العظيم. ولذلك كان من الواجب على المسلم أنْ لا يَصرف عبادة من العبادات إلا لله سبحانه؛ من سجود؛ وطواف؛ وذبح؛ ونذر؛ ودعاء؛ وتوكل؛ وغير ذلك من العبادات؛ لأنه إن صرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله سبحانه فقد عبده .
فالتوحيد عبادَ الله؛ هو أول واجب على العباد، وبه توزن الأعمال يوم القيامة، وما أرسلَ الله الرسل؛ ولا أنزَل الكتب؛ إلا من أجل دعوة الناس إلى توحيده وإفرادهِ بالعبادة.
قال الله تعالى:( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ؛ وهذا بيان واضح جليّ على أهمية التوحيد، حيث أرسل الله رُسَله إلى الخلق يدعونهم إليه ويحذرونهم من ضدِّه-وهو الشرك- ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) .
فما أرسل الله تعالى نبياً إلى قومه إلا نادى بهم وقال: ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ؛ وما قام سوقُ الجنةِ والنار ، وشرع الجهاد ورفعت راياته؛ إلا من أجل توحيدِ الله وإفراده بالعبادة، وذلك بأنْ لا يصرَف أيُّ نوعٍٍ من أنواع العبادات القولية والفعلية إلا له ﻷ؛ قال r : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ ويؤمنوا لي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى » .
هذا وقد تضافرت الأدلةُ من الآياتِ القرآنية الكثيرة، والأحاديثِ النبويةِ المستفيضة بالدعوةِ إلى هذا الأمر العظيم؛ وما كان ذلك إلا لأهميته القصوى ومنزلته العظمى؛ فقال تعالى:(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) ؛ فلا يُشرَك معه غيرُه؛ لا مَلكٌ مقرب ولا نبيٌّ مرسل؛ ومن تأمل هذه الآيات بعين البصيرة والتوفيق؛ رأى أن التوحيد أول ما أمر اللهُ به، وأعظم ما حثَّ عليه، وألزَم ما أوجب به.
وكما أن الله ـ قد أمر بتوحيده وإفراده بالعبادة؛ فقد نهى عن اتخاذ الند والشريك له، لأنه لا يصح توحيدُ العبدِ إلا بالبراءةِ من ضدِّه وهو الشرك؛ وإنَّ قوله تعالى: ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) لأعظم دليلٍ على أنه لا يصح التوحيد إلا باجتناب الشرك.
ويخطئ بعضُ الناس في تصوّره؛ وذلك بأنه يجعل الشرك مقصوراً على عبادةِ الأصنام والأوثان؛ وهذا خطأ بالغٌ جسيم، بل إن الشرك هو أن يصرف العبدُ أيَّ نوعٍ من أنواعِ العبادة لغير الله تعالى؛ فمن فعل ذلك فهو المشرك؛ ولذلك لما قال النبي r للمشركين: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ؛ قالوا :( أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيء عجاب)؛ وما ذلك إلا لفهمهم أن معنى التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة والامتناعُ عن صرف العبادة لغيره سبحانه؛ فمن دعا؛ أو رغب؛ أو رهب؛ أو سجد؛ أو ذبح لغير الله؛ أو طاف بقبر؛ فقد وقع في الشرك؛ ومثله سائرُ أنواع العبادات؛ فتعْجب من أناس في هذا الزمان أن قَصُر فَهمهُم عما انتبه له وفقهَه مشركو الجاهلية .
من أجل ذلك فقد جعل اللهُ تعالى الشرك من أعظم المحرمات؛ ولما عدد المحرماتِ في كتابه بدأها بذكر الشرك فقال تعالى :( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا) .
وقد دلّت النصوص النبوية على أن توحيد الله ﻷ وإفراده بالعبادة ؛ واجتناب الشركِ والأسباب الموصلة إليه هو أعظمُ حقوق اللهِ ـ على عباده؛ قال معاذt: « كنت رديف النبي r على حمار؛ فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد وحق العبادِ على الله؟. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق اللهِ على العبادِ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً؛ وحق العباد على الله أنْ لا يعذب من لا يشرك به شيئاً » ؛ فهذا يبين أن توحيد العبدِ لربه هو أعظمُ الحقوقِ عليه، كما أنه يجب عليه أن يجتنبَ الشركَ بالله تعالى؛ ويبيّنُ الفضلَ العظيمَ الذي جعله اللهـجزاءً لمن وحّده واجتنبَ الاشراكَ به مِن أنَّه لا يعذبه؛ بل وجعل اللهُ سبحانه ذلك حقاً واجباً، أوجبه على نفسه تفضلاً وإحساناً؛ ليس لإيجاب من الخلق ولكنه صار واجباً لأن الله ـ أوجبه على نفسه بياناً لأهمية هذا الأمر الذي أوجبه عليهم، وتنبهاً على عظمته؛ حيث جعل جزاءه الأمن من العذاب؛ ووعدهم بذلك-وهو أصدقُ القائلين- حتى يشمروا بهممهم إلى التمسك به وتركِ ما ينافيه ويخالفه.
فالتوحيد أوجب الواجبات؛ والشرك أعظم المحرمات؛ لأنه محبط للأعمال؛ ومهلك لصاحبهِ؛ فيعيش في هذه الدنيا ذليلاً خائفاً وجلاً ممن أشرك بهم مع الله من السحرة والكهان والمشعوذين؛ ويحشر يوم القيامة إلى عذاب النار وبئس المصير؛قال تعالى:( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون) ؛ وقال تعالى:( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) .
وقال r :« من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار » ؛ والدعاء هو العبادة؛ ودعاء العبادة: بأن يخافه كخيفة الله أن يُلحق به الأذى فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ أو أنه يدعوه لكشف ضرٍّ أو جلب نفع؛ أو يستغيثَ بالأموات والمقبورين؛ أو أن يدعوَ ميتاً بأن يعطيه ولداً أو زوجةً؛ أو أن يعلِّق التمائمَ والحروز والجوامع لدفع ضر وجلب نفع؛ أو أن يذبح الذبائح للأموات وإن كانوا صالحين أو للأحياء من الصالحين أو الفجرة؛ مخافة إن لم يفعل فإنها ستقع به مصيبة؛ أو أن ينذر؛ أو يطوف بقبر؛ أو يذهب إلى ساحر دجال وهو فاجر لا تظهر عليه سمات الصالحين؛ فكل هذه من العبادات التي إذا صرفت لغير الله كان صاحبُها مشركا؛ فإذا مات على ذلك كان من أهل النار خالداً فيها أبداً؛ قال تعالى:( إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) ؛ وقال تعالى:( إنَّ الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيما ) .
وقال مخاطباً خيرَ الورى والنبيَّ المجتبى صلوات ربي وسلامه عليه: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين)؛ فإذا كان هذا قوله تعالى لنبيه وخليله وصفوته من خلقه r ؛ فكيف ما سواه من الخلق؟
فانتبهوا رحمكم الله:
فإن التوحيد لا يتم إلا باجتناب ما يضاده وهو الشرك، فلو صلى العبدُ طول عمره؛ وصام وزكى وحج؛ وهو قائم على نوع من أنواع الشرك؛ فإنّ ذلك لا ينفعُه؛ لأن الشرك يحبط الأعمال؛ قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)؛ فالشرك يأتي إلى كثير العمل؛ فيجعله كأن لم يكن.
وإن منتهى الحسرة أن تجد بعض أهل الإسلام وهو من أصحاب الأعمال الخيِّرة العظيمة؛ إلا أنه متلبس بشيء من أنواع الشرك ظانّاً أنها لا تؤثر؛ وهي والله مذهبةٌ للعمل؛ محبطة للأجر.
فلا بدّ من فقه هذا الباب العظيم لأن الأعمال تقوم به؛ فكم ممن يعمل الأعمال العظيمة من أنواع البر؛ ولم ينفعه ذلك العمل الصالح بسبب الشرك الذي أحبطه؛ وفي المقابل ربما يفوز بعض العصاة برحمةِ الله؛ وينجون من عذابه؛ بسبب تمسكهم بالتوحيد؛ قال r :« من لقى الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار » .
وليس معنى هذا أن يقوم العبد بارتكاب المعاصي اتكالاً على التوحيد فقط، فإن العاصي قد تحيق به معاصيه فترديه في النار، ولكن الفرق بينه وبين المشرك أن المشرك مخلد في النار، والعاصي الموحد قد تدركه رحمة الله؛ فينجيه الله من عذابه ابتداء فلا يدخل النار، أو أنه يدخل النار ثم يخرج بعد ما يقضى ما عليه، وعلى كل حال فمن ذا الذي يريد أن يكون داخلاً تحت الوعيد بالعذاب في نارٍ فضلت على نار الدنيا بتسع وستين درجة؛ نسأل الله العافية والسلامة.
قال r: « ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. قالوا يا رسول الله: إن كانت لكافية. قال: فضلت عليها بتسعٍ وستين جزءاً » .
فتمسكوا بالتوحيد يا عباد الله؛ واجتنبوا المعاصي والآثام؛ واتقوا الله ما استطعتم؛ واعلموا أنكم تتعاملون مع رب رحيم؛ يجزي بالحسنات ويغفر السيئات.
نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فتمسكوا بالتوحيد يا عباد الله :
لقد جاء الإسلام بعقيدة التوحيد؛ ليرفع نفوس المسلمين ويغرسَ في قلوبهم العزة والأنفة والحمية، وليعتِقَ رقابهم من رق العبودية؛ فلا يذِلَّون إلا لله تعالى؛ ولذلك فقد ترك الإسلامُ بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى؛ فكانوا ذوى أنفةٍ وعزة وإباءٍ .
ولن يسترجع المسلمون سالفَ مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة؛ إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد.
كما أن للتمسك بالتوحيد السبب الأعظم بالحصول على خيري الدنيا والآخرة؛ فهو سبب عظيم لتفريج الكربات في الدنيا والآخرة؛ ودفع عقوباتِهِما؛ ويحصل لصاحبه الهدى الكاملُ والأمنُ التام في الدنيا والآخرة .
وهو السبب لنيلِ رضا الله وثوابهِ، ومن تمسك به فهو أسعدُ الناس بشفاعةِ محمد r يوم القيامة.
ومن أعظم فوائده: أنه يمنع الخلودَ في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبةٍ من خردل؛ وإذا كمل في القلب يمنع دخولَ النار بالكلية.
ومن فضائله أنه يسهِّل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات؛ ويسليه عند المصيبات .
ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال التي يؤديها العبد؛ متوقف قبولها وكمالها وترتُّب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله؛ كملت هذه الأمورُ ونمت.
والتوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهوِّن عليه الآلام، فبحسب قوة التوحيد في قلبه؛ يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح؛ ونفس مطمئنة؛ وتسليم ورضا بأقدار الله وإن كانت مؤلمة.
والتوحيد يجعل العبد عزيزا في تعبده لله؛ لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ، ولا ينيب إلا إليه .
والتوحيد إذا تم وكمل في القلب؛ وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام؛ يصيَّر القليلَ من عمله كثيراً، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب .
ومن فضائله : أن الله يدفع عن الموحِّدين - أهلِ الإيمان- شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه؛ كما أن التوحيد يحرر العبد من عبودية المخلوقين والتعلق بهم؛ وخوفهم ورجائهم؛ والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي .
وكل هذا مما وردت به النصوص الشرعية من كتاب ربنا ﻷ وسنة نبيه r .
نسأل الله أن يحيينا على التوحيد والسنة سعداء.
وأن يميتنا على التوحيد والسنة شهداء.
اللهم أعنا ولا تعن علينا؛ وانصرنا ولا تنصر علينا؛ وامكر لنا ولا تمكر علينا..
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ والمسلمين والمسلمات..